الزيتون في الجنوب

 جيني غوسطافسونكتابة
 جيني غوسطافسونتصوير
 نغم خليل، انجلا سعادةبحث
 نسرين كاجتحرير
 فوزي يمينترجمة

قصص من بساتين الزيتون في قريتَي بعنوب والقوزح الجنوبيّتين

يُعتبر جنوب لبنان منطقة مهمّة لزراعة الزيتون؛ حيث يشكّل 38% من إجمالي الزيتون المزروع في البلاد

ثمّ تردف: “صوت قطف الزهور هادي، صوت الآلات اللي بتستعمل بقطف الأفوكا والرمان عالي، ولحبّات الزيتون لحظة اللي بتوقع على الأرض صوت مميّز”.

تقف ياسمينة بجانب الشجرة التي يقوم علي مع شقيقه ورجلين أصغر سنًّا، بقطفها، وهم يضربون أغصان الزيتون أو يجمعون الحبّات عن الأرض. تمسك بصندوق كاد أن يمتلئ بحبّات الزيتون، وامرأة أخرى، أحلام الأقرع، تعمل معها في الحقول، تمسك به من الجانب الآخر ثمّ يحملانه معًا إلى طرف آخر من البستان.

تقول ياسمينة: ​​”تأخّرنا شوي بالقطاف هيدي السنة. فبسبب الحرب، فل كتير من العمّال، واضطرينا نلاقي بديل عنهن”.

يضع علي كولين قدمه على غصن منخفض وقويّ ويمسك آخرًا بيده، ليتسلّق شجرة زيتون تنمو على سفوح وادٍ بالقرب من بعنوب، وهي قرية جبليّة صغيرة في شمال صيدا.

سرعان ما يصل إلى منتصف المسافة التي يتسلّقها، ليقف مرتاحًا وهو يمسك الشجرة بيد واحدة. وبعصا طويلة في اليد الأخرى، يُشرع في ضرب أغصانها. ومع كلّ ضربة، تتساقط حبّات الزيتون. تتهاوى على الأرض بضربات خفيفة، فوق قطعة كبيرة من القماش الأبيض.

“لكلّ موسم بالحقول أصواته الخاصّة. وهيدا هو الشي الحلو بالحصاد”, تقول ياسمينة زهار التي تدير بستان الزيتون مع زوجها.

في الوراء مجموعة من الأشجار لم يتمّ قطفها بعد، بلحائها الفضيّ اللامع وأوراقها التي تتميز بها أشجار عائلة الزيتون. بعض الأشجار قد تمّ زرعها مؤخّرًا في قطعة الأرض التي استأجرتها ياسمينة وزوجها من دير قريب، بينما كانت أشجار أخرى متواجدة هناك منذ مئات بل آلاف السنين.

تشرح ياسمينة: ​​”من الصعب نعرف العمر الدقيق لأشجار الزيتون. بس كلّ الآثار بهيدي المنطقة بترجع للعصور الرومانيّة والفينيقيّة والبيزنطيّة”.

ما إن يصلون، يفرغون الصندوق على طاولة يحوي سطحها على قضبان معدنيّة طويلة تمتدّ من أحد طرفيها إلى الطرف الآخر، ممّا يخلق فيها فتحات ضيّقة تجعل الأغصان والأوراق الصغيرة تسقط من خلالها. يُعدّ فرز الزيتون الخطوة الأخيرة قبل نقله إلى المعصرة لصنع الزيت.

“كمان منشيل حبّات الزيتون الفاسدة أو التالفة، ومنفرز عجنب الحبّات الصغيرة التي منستعملها بالتخليل”، تردف ياسمينة.

يُظهر تحليل التربة أنّ أشجار الزيتون نمت في صور، المدينة الساحلية الرئيسة في جنوب لبنان، في حقبة غابرة تمتدّ إلى 7700 عام، قبل تأسيس المدينة. ففي بستان في قرية بشعلة شمال لبنان، يوجد أشجار يبلغ عمرها حوالي 6000 عام؛ وفي أماكن أخرى في لبنان، من الممكن العثور على أشجار زيتون يعود تاريخها إلى ما قبل عام صفر.

“شجرة الزيتون عصيّة على الموت. بفكّر بكلّ اللي تحملته هيدي الشجرة، من الاحتلالات والكوارث والحروب والحرايق والزلازل، وبعدها صامدة”، تقول ياسمينة.

يبلغ عدد أشجار الزيتون في لبنان ما بين 12 و15 مليون شجرة، وهي تنمو في بساتين تمتدّ من الشمال إلى الجنوب. وتشكّل هذه البساتين ما لا يقلّ عن خمس إجمالي الأراضي الزراعية في البلاد، ممّا يجعل الزيتون المحصول الأكثر انتشارًا من حيث المساحة. كما أنها توفّر الدخل لأكثر من 110 آلاف مزارع ومزارعة.

تُعتبر شجرة الزيتون واحدة من أهمّ الأشجار في منطقة البحر الأبيض المتوسط، وهي المنطقة التي تتميّز بصيف حارّ وجافّ وشتاء معتدل، وهذا بالضبط نوع الطقس الذي يناسب تمامًا أشجار الزيتون. وشجرة الزيتون أصيلة في هذه المنطقة: فالدراسات تُظهر، بما في ذلك تلك التي ترصد سجلّات حبوب اللقاح التاريخية، أنّ زراعة الزيتون بدأت لأوّل مرة في جنوب بلاد الشام، التي تشمل جنوب لبنان والأردن وفلسطين، حوالي 6500 قبل الميلاد.

وبعد عدة قرون، بدأت الزراعة في جزيرة كريت القريبة أيضًا. ولا يزال من غير الواضح ما إذا كانت الشتلات والمعرفة الزراعيّة قد انتشرت من بلاد الشام إلى الجزيرة اليونانية، أو ما إذا كانت الزراعة ظهرت في كلا المكانين بشكل مستقلّ بعضهما عن بعض. على أية حال، من هذين الموقعين انتشرت زراعة الزيتون في جميع أنحاء البحر الأبيض المتوسط.

الأرض في بعنوب، المزروعة منذ العصر الرومانيّ، تمّ استئجارها من دير قريب بعقد إيجار لمدّة 18 عامًا

تذهب إلى المطبخ لتجلب الكليمنتينا والتفاح والسكين، وتضعها من جديد على الطاولة. يجلس رجل على أحد الكراسي: إنه سيمون فلفلي، جار جورجيت في القوزح وعضو، مثلها، في التعاونية الزراعية في القرية. جاء ليعطيها بعض الزعتر الذي قطفه للتوّ من هناك.

“صمدت بالجنوب حتى الأسبوع الماضي. كنت من آخر اللي تركوا الضيعة”، يقول.

“تعودنا عالحروب. بالأول، بس كانوا يتبادلوا إطلاق الصواريخ بس، كانت مسألة ممكن التحكّم فيها. بس وقت تفاقم الوضع للغزو، اضطريت فلّ”.

“بعشق شجر الزيتون تبعي. كلّ ما قطفتها خلال النهار، بنام أنا وعم أحلم بقطفها كمان بالليل. وهيدا بيدلّ على قديش متعلقة فيها”، تقول جورجيت الحاج، مزارعة زيتون من قرية القوزح الصغيرة في جنوب لبنان، وهي تجلس على شرفة شقّة ابنها في الحازمية، على مشارف بيروت، حيث تقيم منذ أن بدأت الهجمات الإسرائيلية على جنوب لبنان في أكتوبر 2023، وقد مرّ أكثر من عام على المرّة الأخيرة التي رأت فيها أرضها.

ثمّ تضيف: “توفّى زوجي من كم سنة، وما كنت تركت الضيعة لو ضل عايش، حتى ولادي رفضوا أني ضل هونيك لوحدي”.

في البداية، كان عليهم القيام بجهد كبير لإزالة الصخور من الأرض وإعداد التربة، إذ كانت الحقول مهملة لسنوات.

“ما كان الموضوع سهل أبدا. بس وقت وصلنا لهونيك وبلشنا نشتغل مع بعض ومع أهل الضيعة، انغرمت بالمكان”، توضح جورجيت.

بدأ الاثنان بالحديث عن القوزح حيث تعيش جورجيت منذ عام 2000. كانت قد انتقلت إلى هناك مع زوجها الذي تتحدّر عائلته من القرية نفسها، وذلك بعد تحرير الجنوب من الاحتلال الإسرائيلي في عام 2000.

“كان زوجي متعلّق كتير بفكرة الشغل بالأرض. خبرني أنو رح نروح لهونيك لفترة معيّنة. كان المشروع متل نعمة النا”، كما تقول.

جورجيت الحاج التي تزرع الزيتون في القوزح

لم تتمكّن جورجيت لمدّة عامين متتاليين من قطاف زيتونها. وكذلك لم يستطع سيمون الحصول إلّا على حبّات زيتون قليلة في العام الماضي، كان قد قطفها من الأشجار التي تنمو في قطعة أرض بجانب منزله.

يقول: “بس ما تقدر تقطف، بتخسر كلّ حبّات الزيتون الباقية على الشجر. وإذا تضرّرت حقولك، لازم تقلّم الأغصان التالفة والمحترقة لتنقذ الشجر”.

في عامي 2004 و2005، زرعوا أشجار زيتون جديدة لتنمو بجانب الأشجار التي كانت موجودة هناك في السابق. كما زرعوا أشجار الصنوبر والخرّوب واللوز والتين، وكذلك الزعتر والعنب.

تقول جورجيت: “بحرب تمّوز 2006، تدمّر كتير من الشجر، وأخد الموضوع وقت طويل لنتعافا من هيديك الخسارة”.

“عانينا كتير بالجنوب. اضطرينا نترك أرضنا سنة 2006، وتضرّرت بيوتنا. واليوم عم نعيش المعاناة نفسها مرة تانية”.

ثمّ يضيف: “إجمالي الأراضي المتضرّرة التي قيّمناها ورسمنا خرائطها، تبلغ نحو 5745 هكتارًا”.

“بتحترق أشجار الزيتون بسهولة كبيرة. صحيح أنّها خالدة متل الآثار لأنها بتحيا لفترة طويلة، بس فيك هلق تشوفها عم تحترق بغضون ثواني قليلة”.

في بلدة بعنوب، التي تقع على حافّة محافظة جنوب لبنان، تمكّنت ياسمينة وزوجها من قطف الزيتون في العام الماضي وفي هذا الموسم أيضًا.

بسبب الحرب في جنوب لبنان، تضرّر إنتاج الزيتون بشدّة، والذي يشكّل 38% من إجمالي إنتاج لبنان. فقد استهدف الجيش الإسرائيلي الأراضي ومرافق إنتاج الزيتون. وفي الخامس عشر من أكتوبر/تشرين الأول، أصدر المتحدّث باسمه تحذيراً مباشراً للناس، طالباً منهم عدم الذهاب إلى حقول الزيتون في الجنوب. ويقول جورج متري، مدير برنامج الأراضي والموارد الطبيعية في جامعة البلمند، إنّه تمّ خسارة نحو 22% من إنتاج زيت الزيتون في لبنان هذا الموسم. وقد كان يراقب تدمير الأراضي في الجنوب، بما في ذلك الأضرار التي لحقت بالغابات والمراعي والحقول.

تعمل ياسمينة وأحلام معًا لتنظيف وفرز الزيتون

إنّ معظم حبّات الزيتون لونها أسود باهت، والبعض الآخر أخضر وقد بدأ يتحوّل إلى اللون الداكن. عند صنع زيت الزيتون، تحبّ ياسمينة خلط أصناف من الزيتون المقطوف من أشجار مختلفة، حيث يضيف كلّ صنف نكهة مختلفة.

توضح: “بالعادة الزيتون الأسود حلو المذاق أكتر. بس من الزيتون الأخضر منستخرج زيت قويّة طعمته وريحته”.

“نحن على حدود الجنوب محل ما الناس فيهن يقطفوا الزيتون هيدي السنة. بس أبعد من هيك، ما حدا قدر الا صغير من الناس من قطف زيتونهم”، كما تقول.

بمساعدة أحلام، قامت ياسمينة بملء عدة صناديق كبيرة بالزيتون المنظّف والمفرز، حيث يتمّ تكديسها على الأرض بعضها فوق بعض، بانتظار نقلها إلى المعصرة، بينما كان كلبان يعيشان في المزرعة، أحدهما أبيض والآخر رماديّ، يأخذان قيلولة في الظلّ.

زهر الدين كولين، الأخ الأصغر لعلي، وهو في غمرة جمع حبّات الزيتون المتساقطة على الأرض، يمسك بطرف قطعة قماش كبيرة ويرفعها بحيث تتجمّع الحبّات في وسطها، ثم ينقلها إلى الصناديق.

هذه هي السنة الأولى التي يعمل فيها زهر الدين وعلي مع ياسمينة. فالأخوان جاءا من كردستان في سوريا، وهما يعيشان ويعملان في لبنان منذ سنوات عديدة. وعندما بدأت الحرب، فقدا وظيفتيهما وجميع ممتلكاتهما.

“بيتغيّر لون الزيتون كعلامة على نضجه. البعض منه بيتغيّر من الأخضر للأسود، والبعض التاني من الأصفر للأخضر”.

بعد قليل يتمّ تنظيف وفرز جميع حبّات الزيتون فوق سطح الطاولة، ثمّ تأخذ ياسمينة وأحلام صندوقًا فارغًا وتذهبان لجمع المزيد من الطرف البعيد من البستان، حيث يقوم الآخرون بالقطاف.

ينتج لبنان حوالي 20 ألف طن من زيت الزيتون سنويًا، لكن الأرقام تختلف من عام إلى آخر. ويتمّ تحويل حوالي 70-80 في المائة من إجمالي الزيتون المقطوف إلى زيت

إنّ أشجار زيتون ياسمينة وزوجها نوعان: سموكموكي وصوري. هذا الأخير شائع في لبنان والأردن وفلسطين ويقال إنه سُمّي على اسم مدينة صور. كما يزرع العديد من مزارعي الزيتون اللبنانيّين أيضًا أصنافًا أخرى كالعيروني والشطاوي والشامي والبلدي وما يُسمى بالزيتون الطلياني.

تقول جورجيت إنّ معظم الناس في القوزح يزرعون أشجار الزيتون البلدي “المحلّي”، إذ من السهل قطافها، بعكس الزيتون الطلياني الذي يصعب قطف كلّ حبّة على حدة”.

كما أنّها وسيمون يعتبران أنّ زيت الزيتون المستخرَج من جنوب لبنان طعمه أفضل من زيت المناطق الأخرى.

يقول زهر الدين: “كنا نعيش بضيعة قريبة من بنت جبيل. كنت أشتغل بالبناء، وبسوق شاحنة. بس بلشت الهجمات عالجنوب السنة الماضية، اضطرينا نهرب. رحنا على برج رحّال حد صور قعدنا هونيك لعدّة أشهر. بس صارت هيديك المنطقة غير آمنة كمان، اضطرينا نفل مرّة تانية. هربنا مع ولادنا على درّاجاتنا النارية وتركنا كل شي ورانا”.

أحد الشباب الذين يعملون مع الإخوة، يرتدي حذاء رياضيًا ناعمًا وبنطلون جينز، ويتسلّق بسرعة إلى أعلى الشجرة. بمجرّد أن يصل إلى فوق، يبدأ بضرب الأغصان، ومع كلّ ضربة، تسقط حفنة من حبّات الزيتون على الأرض.

يهتمّ زهر الدين وعلي كولين بحبّات الزيتون منذ أن تبدأ بالتساقط من الشجرة

تضيف جورجيت: “الناقورة مش بعيدة عن القوزح، بس بالضيع الموجودة بينن بيختلف طعم زيت زيتون فيهن عن طعم زيتنا. مثلًا ضيعة يارين، زيت زيتونها أخضر كتير كأنه مصبوغ”.

خلال الحرب، لم تتمكّن عائلتها من صنع زيت الزيتون الخاصّ بها، لذلك تجدهم يفتقدونه بشدة.

“زيت الزيتون بالجنوب مميّز عنجد. بعتقد أنّ التراب والطقس بيلعب دور بهيدا الشي”، تقول جورجيت.

“وحتى بقلب المنطقة نفسها”، تكمل حديثها، “الأشجار اللي بتكبر بمحلات مختلفة بتعطي أنواع مختلفة من الزيتون. فمثلًا، لكلّ ضيعة محيطة بالقوزح حالة خاصّة”.

ربّما تكون الأسطورة الأكثر شهرة عن الزيتون هي أسطورة أثينا، الإلهة اليونانية التي فازت في معركة ضدّ بوسيدون على المدينة التي تحمل اسمها اليوم. وبعد غرس شجرة زيتون فوق الأكروبوليس – والتي يقال إنها لا تزال تنمو هناك حتى الآن – اختارها أهل المدينة كآلهة راعية لهم، بدلاً من إله البحر والمياه. وفي اليونان القديمة، كان هناك أشجار زيتون تعود ملكيّتها للدولة، يُعتقد أنها تفرّعت من شجرة أثينا الأصلية، وكلّ شخص يقوم باقتلاعها يُعاقَب بالنفي من المدينة.

ونظراً لتجذّر شجرة الزيتون في بلاد الشام، فقد كانت منذ فترة طويلة موضوعًا رئيسًا لفنّ المقاومة الفلسطينيّة والشعر. ويشير إليها محمود درويش باعتبارها “سيّدة التلّ المتواضعة”، و”أخت الخلود الودودة”، و”جارة الزمن”. وقد أدرجت منظمة اليونسكو فلسطين على قائمة التراث العالمي باعتبارها “أرض الزيتون والكروم”. كما تُعدّ أشجار الزيتون من الثمار المهمّة في الثقافة اليهوديّة في المنطقة، حيث كانت تُقدّم كقرابين على المعابد إلى جانب المحاصيل الأخرى مثل القمح والشعير والتمر والرمّان.

تقول: “اليوم ولادي بس بدن ياكلوا لبنة ، ما فيهن يلاقوا زيت منيح وطيّب مثل زيتنا”.

يُعتبر زيت الزيتون جزءًا أساسيًا من المطبخ اللبناني، تمامًا كما هو الحال في جميع الأنظمة الغذائية في جميع أنحاء البحر الأبيض المتوسط. حيث تُعدّ المنطقة موطنًا لـ 95 في المائة من إجمالي مساحة زراعة الزيتون في العالم، ولا يمكن تحضير سوى عدد قليل من الأطباق المتوسّطية النموذجيّة دون استخدام زيت الزيتون. ويمكن تتّبع هذه الممارسة عبر التاريخ: تشير الاكتشافات الأثريّة للمكابس والمدقّات الحجريّة إلى أنّ الزيتون كان يُستخدَم ويُستهلك بطرُق مماثلة لآلاف السنين.

لطالما انطوت شجرة الزيتون على أهمّية رمزية كبرى. فبالعودة إلى الأساطير اليونانية، كانت أشجار الزيتون ترمز إلى السلام والنصر والحياة. وقد استشهد هوميروس بالزيتون في ملحمتَي الإلياذة والأوديسة (حيث وصفَ زيت الزيتون بأنه “الذهب السائل”). وكان قدماء المصريّين يستخدمون زيت الزيتون في عمليّات التحنيط، بينما كان الرياضيّون في أولمبيا يدلّكون به أجسادهم ويُتوَّجون لدى فوزهم بأكاليل من الزيتون.

“بس توفى، حسّيت كأنّ شجر الزيتون غرقانة بحداد. لاحظت مدى الأسى اللي غمرها. قبل ما يتوفى، كانت حالتها أحسن وتنتج أكتر.”

تُخرج هاتفها وتُرينا صورة لها ولزوجها الراحل، يجلسان بجانب بعضهما على جرّار زراعيّ وهما يشرفان على حقولهما. وقد أضافت إطارًا للصورة مرسوم عليه قلوب صغيرة ملوّنة. كما أرتنا أيضًا صورًا لابنتها التي بقيت في القرية حيث تعيش في الجنوب، وتعتني هناك بالحيوانات – خنازير وأبقار وحصان وحتى حَمام – التي بحثت لها، مع تفاقم الحرب، عن ملجأ يأويها.

تواصل جورجيت من على شرفتها في الحازمية، الحديث عن أشجار الزيتون في أرضها ومدى أهمّيتها بالنسبة إلى زوجها. فقبل وفاته، عندما احتاج إلى عصا يستند عليها للمشي وانتهى به الأمر في كرسي متحرّك، كان لا يزال يصرّ على الذهاب إلى الحقول لتناول قهوته.

تقول: “بعد سنة على بدء علاجه الكيميائيّ، حسّ مرّة وهو بالحقل بالتعب الشديد لدرجة أنه غفا تحت الشجر. كان يعشق الشغل بالأرض، خلانا نحن نعشقها كمان”.

تقع قرية القوزح على بعد مسافة قصيرة بالسيّارة من بلدتَي عيتا الشعب وراميا، وهما بلدتان حدوديّتان دمّرتهما إسرائيل بالكامل تقريبًا. وقد صرّح بالاكريشنان راجاجوبال، المقرّر الخاص للأمم المتحدة المعنيّ بالإسكان، بأنّ تدمير الجيش الإسرائيلي للقرى في جنوب لبنان، تمامًا كتدميره في غزة، يرقى إلى “القتل العمد” – التدمير المتعمّد والممنهج للمنازل والمساكن.

في فلسطين أيضًا، تمّ توثيق تدمير إسرائيل لتراث الزيتون، بشكل جيّد، سواء في السنوات السابقة أو أثناء الحرب الحالية على غزة.

حوالي كان جزء من حرب إسرائيل التدمير الكامل للقرى والأراضي القريبة من الحدود. وفي أوائل الحرب، تعرّضت المنطقة للفوسفور الأبيض، وهي مادّة لها آثار سلبيّة طويلة المدى على البيئة، بما في ذلك تلوّث التربة، ممّا يتسبّب في انخفاض الخصوبة. وقد قامت العديد من المنظّمات، منها منظّمة هيومن رايتس ووتش، ومنظمة العفو الدولية، والأمم المتحدة، بتوثيق استخدام إسرائيل لهذه المادّة في جنوب لبنان.

يقول سيمون: “الناس متردّدة اليوم تشتري وتستعمل زيت الزيتون من الجنوب بسبب هيدا الوضع. ما صار بضيعتنا أيّ تلوث بالفوسفور الأبيض، بس القلق مستمرّ”.

قطف الزيتون

وقد شهدت جورجيت مع سيمون تدمير بلادهما من قبل، حيث تعرّض منزل عائلة زوجها للتدمير قبل عشرين عامًا وأعيد بناؤه.

تقول جورجيت: “لو رحت ولقيت شجر الزيتون بأرضنا محروقة، ما حتى بقدر أوصف قديش الحزن وخيبة الأمل اللي رح أشعر فيهن، وببالي سنين الشقاء اللي بذلتها برعايتها”.

المنظر فوق الوديان بالقرب من بعنوب

“فلّ هيدا الجيل من الضيعة ونزح عبيروت. بالأول، ما كان بدهن يفلوا، بس دغري لقيوا وظايف بالمدينة وضلوا هونيك، لهيك صارت الضيعة تصغر شوي شوي”، كما تقول.

“لهيدا السبب قرّرنا اليوم نعمل تعاونيّتنا، لمساعدة الناس يضلوا بالضيعة”.

يقول سيمون: “كانوا آباؤنا ملتزمين بترميم بيوتهن لإحياء تراث العيلة”.

وقد غادر والدا جورجيت وأجدادها الجنوب بسبب الأوضاع السيّئة خلال سنوات الاحتلال.

غالبًا ما يُنظر إلى أبيقراط، الذي يُعتبر أبا الطبّ الحديث، على أنه وصف زيت الزيتون بأنه "الشافي الأعظم"

تتمّ عملية التنظيف الأخيرة بواسطة آلة في المعصرة. “هيدي الطريقة بتشيل حبّات الزيتون الجافّة أو التالفة، وبالنهاية، كلّ ستّين كيلوغرام من الزيتون بينتج قنينة وحدة من الزيت”، تقول ياسمينة.

“الزيتون المفضّل عندي هو الزيتون الأخضر”، تشرح ياسمينة، “وهو النوع اللي بينمى على الشجر القديم بأرضنا العالية. ودايمًا بعمل زيت من حبّات هيدي الشجر”.

وتضيف أخيرًا: “منستهلك زيت الزيتون لنحافظ على الحياة وإطالتها. فالموضوع، كلّ الموضوع، بيتعلّق بمسألة الانتقال والبقاء. شجرة الزيتون شجرة أصيلة، بتعطي الثمار والزيت الصالح للأكل، وفينا نستخرج موادّ كتيرة من أوراقها وأخشابها. فيك تعيش مع هالشي لسنوات طويلة.”

إنّها الآن فترة بعد الظهر في أرض بعنوب، وقد انتهى الحصاد لهذا اليوم. ولا يزال أمام ياسمينة وأحلام وزهر الدين والآخرين، الكثير من العمل للقيام به قبل قطف جميع الأشجار، وهم يخطّطون للبدء من جديد في صباح اليوم التالي. في الوقت الحالي، يزنون كلّ صندوق من الزيتون المصنّف على الميزان، ثمّ يضعونه في الصندوق الخلفيّ لسيارة ياسمينة.

ينبغي نقل الزيتون إلى المعصرة القريبة في أسرع وقت ممكن لإنتاج أفضل نوع من الزيت. يوجد في لبنان المئات من معاصر الزيتون (544 معصرة وفقًا لنظرة عامّة على الصناعة لعام 2017)، لذلك سيجد معظم مزارعي الزيتون واحدة في منطقتهم.