جيني غوسطافسونكتابة
جيني غوسطافسونتصوير
يارا وردبحث
نسرين كاجتحرير
فوزي يمينترجمة
تغطّي الخضرة المنحدرات المؤدّية إلى الوادي، حيث تقوم العديد من العائلات هنا بزراعة المحاصيل على قطع صغيرة من الأراضي الجبليّة. ينتمي أحمد، الذي وُلد ونشأ في عكار العتيقة، إلى إحدى هذه العائلات الزراعيّة. فعائلة البحري هي، على حدّ قوله، “واحدة من أكبر العائلات الزراعيّة في هذه المنطقة”.
على طول حافّة الحقل، تتسلّق نباتات اللوبية الطويلة – قرون الفاصوليا الخضراء – أعوادًا رفيعة مزروعة في الأرض. في اللغة الإنجليزية، تُعرف هذه الفاصوليا باسم الفاصوليا الطويلة وتنتمي إلى عائلة البقوليات الكبيرة Fabaceae (ثالث أكبر عائلات نباتات الأرض في العالم، بعد السحلبيّات والنجميّات/زهرة الشمس).
يسير أحمد وسط درب صغير يمتدّ بمحاذاة حقله، ويصل أحد أطرافه بالطرف الآخر. يتبع خطواته الوالدان تيم وخضر، إبن أخيه وابن أخته.
“سنحصد اللوبية اليوم، ثمّ سنقوم بإزالة بعض الأوراق عن نباتات الكوسا”، يشرح أحمد وهو يصل إلى الجانب البعيد من الحقل، المطلّ مباشرة على الوادي.
اللوبية هي فاصوليا شائعة في عكار، وفي أجزاء أخرى من لبنان. وقد شقّت طريقها، إلى جانب أنواع أخرى من الفاصوليا (المعروفة أيضًا باسم الفاصوليا الشائعة)، إلى البحر الأبيض المتوسط من الأميركيّتين، حيث كانت برّية قبل أن يتمّ تدجينها، كما يعتقد الباحثون، وذلك منذ حوالي 8000 عام. في القرن السادس عشر، بعد أن جلبها الأوروبيون الذين استعمروا الأميركيّتين، بدأت اللوبية تنمو على طول شواطئ البحر الأبيض المتوسط.
يكمل أحمد شرحه: “هناك العديد من أنواع اللوبية. ومن خلال البحث الذي أجريته، أعرف حوالي 20 نوعًا مختلفًا. وقد أحضرت معي بعض البذور من رحلة قمت بها إلى سريلانكا، غير أنّي لم أحاول زراعتها هنا بعد”.
يبدأ في قطف الفاصوليا الطويلة المسطّحة التي تنمو بين الأوراق، ويلقيها في صناديق سوداء موضوعة على الأرض. ينضمّ إليه كلّ من تيم وخضر، ويساعدانه في القطاف، فتمتلئ الصناديق بسرعة.
يملك أحمد نحو ألف نبتة لوبية في أرضه، وهي من نوعين مختلفين: نوع مسطّح يُسمّى “لوبية عريضة”، ونوع آخر يحوي بذورًا أكبر ويسمّيها أحمد “لوبية أميركية”.
يقول: “نطلق عليها أيضًا إسم الفاصوليا؛ يمكنك استخدام كلا الإسمين، فأسماء أنواع الفاصوليا هذه تختلف باختلاف المنطقة”.
وسرعان ما أصبحت الفاصوليا غذاءً أساسيًا في المنطقة، متقدّمة على بعض الأطعمة الأخرى المستوردة من الأميركيّتين، مثل الطماطم والبطاطس والذرة – ربّما لأنها تشبه فاصوليا أخرى كانت تنمو في البحر الأبيض المتوسط منذ آلاف السنين: الفافا، أو الفول بالعربيّة. يُعدّ الفول أحد أقدم البقوليات المدجَّنة في العالم، حيث تمّ العثور عليه وزراعته لأوّل مرّة فيما يُعرف اليوم بلبنان وسوريا وفلسطين وتركيا والعراق.
“أحبّ اللوبية الأميركيّة أكثر من غيرها. ولدينا طريقة لذيذة لطهيها مع الكوسا والفلفل الحارّ والطماطم”، يوضح أحمد.
طبق اللوبية الأكثر شهرة في لبنان هو اللوبية بالزيت – الفاصوليا المطبوخة بزيت الزيتون والبصل والطماطم. ويتمّ طهي العديد من الأطباق بهذه الطريقة الكلاسيكية (مع أو بدون الطماطم)، مع إضافة كلمة “بالزيت” ببساطة إلى اسم أحد الخضروات: البامية، أو الهندبة، أو الفول الأخضر.
في لبنان وسوريا وفلسطين، غالبًا ما يُشار إلى الفاصوليا التي تُؤكل مع قرونها الخضراء باسم لوبية، في حين تُسمّى الفاصوليا المقشّرة والمجفّفة والمطبوخة باسم فاصوليا (وهي كلمة ذات أصول في اللغتين اليونانية والتركية). إنّ الأسماء تتحوّل وتتداخل في جميع أنحاء العالم العربي، ففي الجزائر والمغرب وليبيا وتونس، يشير طبق “لوبية” إلى الفاصوليا البيضاء المطبوخة بالطماطم. واللوبية المصرية مشابهة لها لكنّها مصنوعة من الفاصوليا السوداء. وفي الهند وباكستان، في اللغتين الهنديّة والأرديّة، تشير كلمة “لوبية” إلى أنواع مختلفة من الفاصوليا، وعادة ما تكون الفاصوليا السوداء.
ها هم أحمد وأبناء أخيه قد ملأوا صندوقين كبيرين باللوبية وبدأوا يقطفون الخيار من نباتات تنمو قريبًا من الأرض، حيث تختبئ خضرواتها الخضراء الطويلة تحت الأوراق. يخبرنا أحمد بأنّ الأولاد يحبّون كثيرًا المجيء إلى هنا، وغالبًا ما ينضمّون إليه في أوقات فراغهم. إنّهم يفضّلون الزراعة على الحصاد.
ثمّ يردف: “أنظرْ إلى حبّات الخيار الجميلة؟ أحصد يوميًا أربعة إلى خمسة كيلوغرامات منها. وأمّي سعيدة جدًا بذلك”.
يشكّل الطعام المكوّن من البقوليات عنصرًا أساسيًا في المطبخ المتوسّطي. ففي هذه الأنظمة الغذائيّة، تُعدّ البقوليات والعدس المصدر الرئيسيّ للبروتين – هذا وليد تاريخ من الطهي والزراعة حيث كانت البقوليات دائمًا متوفّرة وبأسعار معقولة. فنموّها سهل في المناخ المشمس للمنطقة، ويمكن تخزينها لفترات طويلة من الزمن. كذلك تتمتّع البقوليات بقدرة خاصّة على الحصول على النيتروجين من الغلاف الجوّي، واستخدامه لإنتاج البروتين في بذورها، وإعادته إلى التربة عندما تموت النبتة – وهي عمليّة مهمّة في المناطق ذات التربة الفقيرة بالمغذّيات.
“أزرع المحاصيل لتلبية احتياجاتنا من هذه الأرض. وكلّما حصلنا على أكثر من عوزنا، إمّا أن نعطيه لجيراننا أو نبيعه”، يقول.
تملك الأسرة أيضًا قطعة أرض أخرى تقع تحت حقل الخضروات الخاصّ بأحمد، تُستخدم فيها المواد الكيميائيّة، ويتمّ بيع إنتاجها للمحلّات والأسواق. ويرغب أحمد في تحويلها إلى الإنتاج العضويّ أيضًا، لكن هذا يتطلّب الكثير من الجهد.
يستخدم أحمد الأساليب العضويّة لزراعة هذه الأرض منذ أكثر من أربع سنوات ولا يزال حتى يومنا هذا. وقد بدأ بذلك أثناء فترة الوباء والأزمة الاقتصادية في لبنان، عندما اضطرّ أوّلًا أن يتحوّل إلى العمل عبر الإنترنت، ثمّ شيئًا فشيئًا بدأت تتضاءل فرص العمل لديه. فشرع يركّز بشكل أكبر على الزراعة، وهو الآن يعمل بدوام جزئيّ في الزراعة، وبدوام جزئيّ آخر في الهندسة عبر الإنترنت.
“أقوم بالشيء نفسه مع الخيار. ينبغي أن ينضج ويصفرّ لونه أوّلًا، لأتمكّن من استخراج البذور منه”، كما يقول.
بهذه الطريقة، زرع أحمد العديد من خضرواته، باستخدام بذور من محاصيل السنوات السابقة. يشكّل استخدام البذور المحلّية أساس مفهوم سيادة البذور، حيث يحتفظ الفلّاحون والمزارعون بالسيطرة على محاصيلهم.
يقول: “المنتجات العضويّة بالكاد تُباع في السوق، وربّما أحتاج إلى خمسة أو ستة أشخاص لمساعدتي من أجل القيام بذلك”.
يشير إلى الكوسا المتروكة على الأرض؛ هي أكبر بكثير من المعتاد وقد تُركت هناك لسبب ما. فهذه هي الطريقة التي يحصل فيها أحمد على البذور للعام المقبل: يترك بعض الخضروات تنمو بشكل كبير، ثمّ يستخرج بذورها.
لكن الأمور تغيّرت مع بداية الثورة الخضراء في الستّينيات، التي سعت إلى جعل الزراعة العالميّة فعّالة من خلال إدخال الأسمدة، المبيدات الحشريّة والمحاصيل عالية الوفرة. منذ ذلك الحين، بدأ المزارعون في استخدام المزيد من البذور الهجينة أو المعدَّلة جينيًا، والتي تتطلّب في الكثير من الأحيان، استخدام الأسمدة والمواد الكيميائيّة والمياه لإنتاج المحاصيل. ويتمّ تسويق هذه البذور على أنها “مُحسَّنة”، لكنّها في الواقع تقلّل من التنوّع البيولوجيّ وتجعل المزارعين يعتمدون على مورّدي البذور العالميّين.
تعتبر حركة المزارعين الدوليّة، لا فيا كامبيسينا La Via Campesina، أنّ سيادة البذور تشكّل أساس استعادة التنوّع البيولوجيّ كصالح عام ومشترك. فعلى المزارعين أن يكونوا قادرين على حفظ البذور، تربيتها وتبادلها دون الاعتماد على المورّدين الدوليّين الكبار. كانت هذه هي الحال على مرّ التاريخ وفي جميع أنحاء العالم. فالمزارعون يحفظون البذور من النباتات التي تناسبهم بشكل أفضل، ويتبادلونها محلّيًا وإقليميًا. بهذه الطريقة، تمّ إنشاء نوع من بنك للجينات عابر للحدود الوطنية، حافظ على تنوّع المحاصيل العالميّة.
في عكار العتيقة، يلتقط أحمد عن الأرض نبتة بصل مزهرة. وفيما يقشّر قرونها الصغيرة بأصابعه، تسقط بذور سوداء صغيرة في راحة يده. هذه البذور، المعروفة باسم البذور الأصلية، هي أكثر كثافة من الناحية الغذائيّة وأكثر مرونة في مواجهة عواقب تغيّر المناخ، لأنها تشكّل جزءًا من مجموعة جينيّة متنوّعة.
ويتحكّم اليوم بسوق البذور العالمية أربع شركات – بايرBayer الألمانية (التي استحوذت على مونسانتو في عام 2018)، BASF، مجموعة سينجينتا Syngeta الصينيّة وكورتيفاCorteva في الولايات المتحدة – فهي التي تسيطر على 62٪ منها. وعادةً ما يعتبر خبراء الاقتصاد أنّ احتكار أربع شركات بنسبة 40٪ أو أكثر، هو احتكار أقلّية.
يملك أحمد 200 كيلوغرامًا من بذور الذرة في المخزن، وهي جاهزة لموسم الزراعة القادم. كما أنّه يبيع البذور كلّما كان لديه أكثر ممّا يحتاج إليه، في متجر زراعيّ محلّي.
في هذا الصدد يقول: “أبيع بذور الكوسا التي طوّرتها يدويًا قبل سبع سنوات. وما أزال في طور تطويرها، لكن العائد جيّد. والناس يشترونها لأنهم يعتقدون أنّها أكثر مقاومة للأمراض”.
يقول أحمد: “بذور الذرة التي أستخدمها هي من النوع نفسه الذي استخدمه جدّي، حتى أنّ جدّي الأكبر استخدمه أيضًا”.
“ّأطلق على هذه البذور إسم البحري، تيمنًا باسم عائلتنا”.
وقد ضمن هذا الأمر حصول المزارعين على بذور مناسبة للمناخ، وقادرة على الصمود في وجه الجفاف والحرارة وظروف التربة المحلّية.
وتكتسب سيادة البذور أهمّية إضافيّة في زمن الحروب والصراعات. هكذا انبثقت مزرعة “بذورنا جذورنا” في سهل البقاع، من مبادرة إرسال بذور من لبنان إلى منطقة اليرموك في دمشق، وهو مخيّم فلسطيني بُني في المدينة، وكان تحت الحصار خلال الأيام الأولى من الحرب في سوريا، فأدرك بعض الأشخاص الذين يعيش أفراد من أسرتهم في اليرموك، أنّ الحصول على البذور كان مسألة بقاء بالنسبة لهم.
حوالي 90 في المائة من البذور التي يستخدمها، تأتي من محاصيله الخاصّة. وسبب ذلك يعود إلى أنّه يعتمد في هذا على المعرفة التي توارثتها الأجيال في عائلته، إضافة إلى التقنيات الجديدة التي تعلّمها من اليوتيوب والإنستغرام. تاريخيًا، كان المزارعون في لبنان وسوريا والمنطقة المحيطة، يحفظون البذور ويتبادلونها بعدّة طرق. كانوا يتشاركونها عبر شبكات مجتمعيّة غير رسميّة، ويحضرونها إلى الأسواق الموسميّة ومهرجانات الحصاد (حيث لم يكن يتمّ تبادل البذور فحسب، بل أيضًا المعرفة). وكان التجّار الذين يسافرون من قرية إلى أخرى، يحملون البذور معهم أيضًا، والمزارعون يجلبونها للتبادل في التجمّعات الدينيّة.
وفي وقت سابق من هذا الخريف، تمّ تشكيل تحالف إقليميّ بين المزارعين في كلّ من العراق وإيران ومصر ولبنان وسوريا وفلسطين، من أجل تعزيز العلاقات عبر الحدود.
في عكار العتيقة، يقوم أحمد وأبناء أخيه بإطعام الدجاج الذي يعيش بجوار أرضهم حيث يمتدّ المنظر منها، فوق الوادي، في عدّة اتجاهات. ففي أسفل الأرض مباشرة، ترتسم أنقاض ما كان في السابق حصنًا يعود تاريخه إلى العصر الفاطميّ، استولى عليه كلّ من الصليبيّين والقائد المملوكيّ بيبرس. وهنا يتذكّر أحمد قصّة عن الحصن: تمّ تدمير جزء منه على يد الأمير فخر الدين الذي نقل الحجارة طوال الطريق إلى بيت الدين لبناء القلعة هناك.
اليوم، وبينما يستخدم المزارعون على مستوى العالم المزيد من البذور التجاريّة مقارنة بالماضي، لا تزال الغالبيّة العظمى تزرع بذورًا محلّية. وتمثِّل الشبكات التي يسيطر عليها المزارعون، ما يقدّر بنحو 80-90 في المائة من جميع البذور المستخدمة عالميًا، وفقًا لدراسة بارونات الطعام Food Barons 2022. وقد تمّ في لبنان ّإطلاق العديد من المبادرات في السنوات الأخيرة. فلدى مزرعة “بذورنا جذورنا” وأربع مزارع أخرى، شبكة تسمّى “حبوب”، وتقدّم الحركة الزراعيّة في لبنان AgriMovement بذورًا مجّانية من خلال مبادرة Seed in a Box، كما تعمل جمعيّة “نُحيي الأرض” على حفظ وتبادل البذور التراثيّة في صيدا.
أخيرًا يقول: “أحبّ أن أرى النتائج على الأرض. إنّه شعور يفوق الوصف، خصوصًا عندما أعلم أنّ تلك البذور هي بذوري وأنّني حصدتُ المحاصيل بنفسي. المسألة أشبه بتربية الأطفال”.
بعد إطعام الدجاج، لا يتبقّى لأحمد سوى شيء واحد ليفعله: نقل صناديق الخضار إلى سيّارته، ثمّ ترك الأرض كما هي إلى حين عودته في اليوم التالي.