الكمّون في الوادي

 جيني غوسطافسونكتابة
 جيني غوسطافسونتصوير
 يارا ورد، انجلا سعادةبحث
 نسرين كاجتحرير
 فوزي يمينترجمة

صناعة الكمّون مع أبو شجاع وأمّ شجاع

محمّد العلي

يقول أبو شجاع: “الكمّون يعشق الطقس الجافّ والحارّ، تمامًا كما هو الحال هنا في البقاع”.

يواصل السير عبر الحقل. لم يتبقّ الكثير من النباتات؛ فقبل أيّام قليلة، كان قد حصد الكثير مع مجموعة من العمّال الزراعيّين، والآن يجمع فقط ما تبقّى منها.

الكمّون الذي يُستعمل أساسًا كتوابل، شائع في كلّ من لبنان وسوريا. وهو يُستخدم كثيرًا في الطهي: في بعض الأحيان، وكما هو الحال في طبق الكمّونة في جنوب لبنان، يلعب الكمّون الدور الرئيسيّ فيه. كما أنه علاج شائع في الطبّ التقليديّ المحلّي.

للوهلة الأولى، تبدو الأرض الممتدّة نحو جبال سوريا، خشنة. فهي جافّة ومسطّحة، ولونها يتغيّر من الأخضر الباهت والأصفر إلى اللون الطينيّ. أبو شجاع، واسمه الحقيقي محمّد العلي، ينتعل حذاءً رياضيًا خفيفًا ويسير عبر الحقل.

بين الحين والآخر، يتوقّف لالتقاط النباتات التي تنمو في التربة الحمراء، وسرعان ما يجمع بين يديه باقة صغيرة منها. هذا النبات، الجافّ والهشّ، هو الكمّون، عضو مزهر من عائلة Apiaceae (كالجزر، والجزر الأبيض، واليانسون، والأعشاب كالشبت والبقدونس والكزبرة)، ينمو متوهّجًا تحت أشعّة الشمس الدافئة.

تقع مزرعة الكمّون بالقرب من بلدتَي رعيت ودير الغزال الريفيّتين، في الجزء الشرقيّ من وادي البقاع، حيث الجبال تلامس السهول. يتحدّر أبو شجاع من الرّيف بالقرب من حمص في سوريا، لكنّه يعيش هنا في البقاع منذ أن اندلعت الحرب في بلاده، وزوجته لبنانيّة وهي أيضًا تعمل في الزراعة.

يروي أبو شجاع: “أنا من منطقة زراعيّة رائعة تقع بالقرب من نهر العاصي. كلّ أفراد عائلتي يعملون في الزراعة. عندما كنت طفلاً ومراهقًا، كنت أقضي كامل أوقاتي في الهواء الطلق وفي الحقول”.

يقول أبو شجاع: “الكمّون هو من التوابل المفضّلة لديّ. أستمتع كثيراً بزراعته وحصاده، وهنا في البقاع، الأرض مناسبة لزراعته”.

يواصل أبو شجاع سيره في الحقل، متنقّلًا بين الحجارة والأشواك التي تنمو في التربة. ليس لديه الكثير من العمل اليوم؛ فهو يمرّ فقط ليتفقّد الأرض ويرى إذا كان كلّ شيء على ما يرام.

يقول: “كنّا 20 شخصًا نحصد الكمّون هنا في الأيّام السابقة، إذ ينبغي حصاده يدويًا؛ فهو لا يرتفع كثيرًا خلال نموّه، لذا لا يمكن استخدام الآلات لحصاده”.

في البداية، عمل أبو شجاع في حقول يملكها أشخاص آخرون. كان يسقي النباتات ويعتني بها ثمّ يحصدها، إلى جانب ممارسته أعمالًا أخرى.

يقول: “عندما تقصد لأوّل مرة مكانًا جديدًا للعمل لا تعرف فيه الناس، تكون البداية كذلك”.

بعدها تعرّف على مزرعة “بذورونا جذورنا”، وهي مزرعة تعمل في الزراعة العضويّة والمستدامة، تقدّم التدريبات وتوفّر قطعًا صغيرة من الأراضي.

أبلغوه، على حدّ قوله: “لدينا قطعة الأرض هذه ولا نريد إهمالها. فماذا لو اعتنيت أنت بها وقدّمنا نحن الدعم؟”

هكذا حصل على لقبه “شجاع”، كما يوضح. بدأ العمل في الحقول في سنّ مبكرة، فاعتبر الناس ذلك دليل قوّة وشجاعة.

على عكس العديد من سواه من الرّيف السوريّ، لم يعمل أبو شجاع خلال شبابه في لبنان، موطن زوجته، فهو لم يغادر إليه إلّا عندما اشتعلت الحرب في بلاده.

“عندما امتدّت الحرب إلى منطقتنا، غادر العديد من الناس في غضون شهر أو شهرين، وأصبح التواجد في الحقول أمرًا خطيرًا للغاية. إذا حاول المرء البقاء على الحياد، فسيجد نفسه في ورطة. ولأنّي لم أكن أرغب في المشاركة، لم يكن لدينا ما نفعله سوى المغادرة”، كما يقول.

أبو شجاع يحمل قشرة حمّص فارغة. فلقد خسر هذا العام معظم محصوله من الحمّص بسبب مرض فطريّ

في لبنان، تسيطر أقلّية صغيرة من مالكي الأراضي على معظم الأراضي الزراعيّة. فواحد في المائة من المزارعين يسيطرون على ربع الأراضي، في حين يسيطر 10 في المائة على 61 في المائة من الأراضي في جميع أنحاء البلاد. هذا ما يعكس أنماط عدم المساواة العالميّة. ورغم أنّ المزارع الصغيرة تشكّل الأغلبيّة في جميع أنحاء العالم، إلّا أنّ ملكيّة الأراضي الزراعيّة تبقى في أيدي الأقلّية. ويسيطر نحو 16 في المائة من المزارعين على 88 في المائة من الأراضي الزراعيّة على مستوى العالم.

هكذا بدأ في زراعة الحقل الذي يعمل فيه الآن. تستأجر “بذورونا جذورنا” الأرض من صاحبها، تدفع إيجارها، وتطلب من أبو شجاع السداد لها بعد أن يبيع إنتاجه. وإلّا فلن يكون من الممكن له الحصول على أرض كهذه. فنادرًا ما يكون المزارعون ذوو رأس المال الاقتصادي المحدود، وخاصّة المزارعون السوريّون، يتملكون أو يتحكّمون بالأراضي التي يعملون فيها.

ومنذ تلك الحقبة، لا يزال التدوين القانونيّ للأراضي ساريًا في لبنان حتى يومنا هذا. فلقد صنّف العثمانيّون الأراضي وفقًا لحالة الملكيّة والإنتاجيّة، وقسّموها إلى فئات كالملك (الملكيّة الخاصّة)، والمَوات (الأراضي غير المستصلحة)، والمتروك (الأراضي المهجورة)، والوقف (الأملاك الدينيّة). وهناك فئة أخرى لا تزال سارية في لبنان حتى اليوم، هي الأراضي الميري أو الأميريّة. هذه الأراضي هي نوع من الممتلكات العائدة للدولة حيث يحتفظ أفراد من عامّة الناس بالحقّ في زراعتها، ونقلها من جيل إلى جيل (على النقيض من بعض التشريعات الدينيّة، ينطبق هذا الحقّ على الرجال والنساء على قدم المساواة).

في لبنان، كانت ملكيّة الأراضي منحرفة، وذلك قبل فترة طويلة على تشكّله كدولة حديثة. وبحلول أواخر القرن التاسع عشر، في نهاية العصر العثمانيّ، كانت حفنة من العائلات تسيطر على مساحات كبيرة من الأراضي.

في الوقت نفسه، شكّلت الأراضي الريفيّة الجزء الأكبر من الإمبراطوريّة ككلّ. وكان حوالي 60 في المائة من سكانها يعيشون في الرّيف، حيث كانت عائدات الأراضي الزراعيّة تُعتبر أعظم مورد للإمبراطورية.

اليوم، هناك 31907 قطعة أرض مسجّلة باسم الدولة في لبنان، وفقًا للخرائط التي أجراها استوديو أشغال عامّة. ثمانون في المائة من هذه الأراضي تقع في عكار والبقاع، وتضمّ بعلبك وحدها ​أكثر من ثلث الأراضي الزراعيّة التابعة للدولة. يصف استوديو الأشغال العامّة هذه الأراضي بأنها “ثروة وطنيّة” مرتبطة بشكل مباشر بـ “سبُل العيش في جميع أنحاء لبنان”.

ومع ذلك، في السنوات الأخيرة، تمّ طرح العديد من المقترحات السياسيّة، إمّا لدمج الأراضي الميري والأراضي الخاصّة، أو لبيع الأراضي المملوكة من الدولة، وهو أمر من شأنه أن يزيد بلا شكّ انعدام المساواة في مجال الزراعة.

إبّان العصر العثماني، كانت الأراضي المرويّة تشكّل أغلبيّة الأراضي الصالحة للزراعة في لبنان اليوم (وكذلك في سوريا وفلسطين)، باستثناء جبل لبنان. وقد تمّ تصنيفها تاريخيًا كأراضي زراعية وليس مواقع للبناء، وغالبًا ما تمّ دمجها وإعادة توزيعها في نوع من التناوب الدوريّ.

على النقيض من ذلك، كانت الملكيّة الخاصّة مقتصرة، بشكل أساسيّ، على الأراضي المزروعة كالكروم والبساتين.

كما كانت الأراضي الميري تتمتّع بـ”حقّ التصرّف”، أي أنّ الأشخاص الذين يستخدمونها يحتفظون بهذا الحقّ ما لم يتخلّوا عن الأرض لمدّة خمس سنوات متتالية، وبعدها يمكن لشخص آخر الاستيلاء عليها. هذا النظام يساهم في الاستفادة من الأراضي الزراعيّة وعدم تركها مهملة أو عرضة للمضاربة.

لكن نباتات الكمّون، من جهتها، نمت بشكل جيّد. هذه الزراعة شائعة في هذا الجزء من البقاع، حيث التربة جافّة والصيف حارّ. فالكمّون ينمو بشكل أفضل في التربة الفقيرة بالمغذّيات، وفقًا للكاتبة الغذائيّة مريم ريشي، لأنّه “يجعل النبات يعمل بجدّ لاستخراج كلّ ذرّة نكهة من الأرض”. في جميع أنحاء العالم، نجد أنّه يمكن للكمّون أن ينمو في ظروف تشبه مناخ الصحراء. تقوم الهند وحدها، حيث يُعرف هذا التابل باسم جيرا، من الكلمة السنسكريتية المشتقّة من الهضم، بزراعة حوالي 70 في المائة من مجمل إنتاج الكمّون في العالم. وربّما إنّ أفضل أنواع الكمّون ينمو في الصحاري في ولاية راجاستان (التي يُقال أيضًا أنها تنتج أفضل حنّاء في العالم).

يقول أبو شجاع: “عندما بدأتُ العمل في هذه الأرض مع “بذورنا جذورنا”، وضعوا في تصرّفي جرّارًا زراعيًا وسيّارة، وهذا ما لم أكن لأحصل عليه لولاهم”.

يلتقط نباتاً آخر من الأرض. إنه نبات الحمّص الذي ينمو منخفضاً على سيقان قصيرة ذات أوراق خضراء شاحبة. ولكن عند نزعه للقشرة بأصابعه، وجد أنّ الحبوب الموجودة في الداخل صغيرة وجافّة. فلقد أصيبت النباتات بمرض فطريّ، وبذلك خسر الكثير من محصول هذا العام.

يزرع أبو شجاع محاصيل مختلفة، بما في ذلك اليانسون

يظهر الكمّون في أحد أقدم السجلّات المكتوبة في العالم، ضمن وصفة مسجلّة بالخطّ المسماريّ القديم الذي يعود أصله إلى ما يُعرف اليوم بالعراق. تتحدّث هذه الألواح التي يعود تاريخها إلى حوالي عام 1700 قبل الميلاد، عن الكمّون إلى جانب مكوّنات أخرى كالبصل والثوم. يُقال إنّ تسمية الكمّون بالإنكليزية أي Cumin هي الكلمة الإنجليزية الوحيدة التي يمكن إرجاعها مباشرة إلى السومريّة، أوّل لغة مكتوبة في العالم، حيث كان النبات يُسمّى جامون (قريبة من “كامون” العربيّة).

لا يُعرف تحديدًا أصل الكمّون، لكن أغلب الأدلّة تشير إلى مكان ما في شرق البحر الأبيض المتوسط، أو وادي النيل، أو غرب أفريقيا. وكجميع التوابل، تنقّل الكمّون عبر العالم من خلال التجارة والطرُق الأخرى، وانتشر من البحر الأبيض المتوسط ​​إلى شبه القارّة الهنديّة والأميركيّتيْن.

سهل البقاع منطقة زراعيّة مهمّة بتربتها الخصبة وارتفاعها عن سطح البحر حوالي 900 متر

“نستخدم الكمّون للعديد من المسائل، منها آلام المعدة، والقلق بحيث إذا جافاك النوم ليلًا، يمكنك شربه ساخنًا فيساعدك كثيرًا على النوم”، يقول أبو شجاع.

مرّت أسابيع عديدة وهو جالس في منزله في سعدنايل حيث يعيش مع زوجته وأطفاله، على بعد نصف ساعة من مزرعة الكمّون. منزل أقرب ما يكون إلى الخيمة، مبنيّ من عوارض خشبيّة بسيطة وأغطية قماشيّة. والجوّ في داخله بارد رغم شمس الظهيرة القويّة.

تدخل زوجته نهلة العبد التي تُعرف باسم أمّ شجاع وتشير إليه بأن يأتي إلى الغرفة. قضت الصباح تهتمّ بالملوخية، وهو نبات أخضر مورق شائع في المطبخين السوري واللبناني، فأصبحت أرضيّة إحدى غرفهم الصغيرة مغطاة الآن بأوراقه التي تُفرَش لتجفّ بضعة أيام.

وهناك أيضَا وصفات تاريخيّة أخرى تتضمّن الكمّون. فالأطباق التي تمّ تقديمها في العيد الشهير الذي أقامه الملك الآشوري آشور ناصربال الثاني في القرن التاسع للاحتفال ببناء عاصمته الجديدة نمرود، كانت تحوي الكثير من الكمّون. وكان المصريّون القدماء يغطّون خبزهم بالكمّون قبل خَبزه – ويقدّمونه كهدية؛ وقد وجد علماء الآثار بذور الكمّون في العديد من الحفريّات.

كما أنّ “كتاب الطبيخ” الذي كُتب في بغداد في القرن العاشر والمعروف بأنّه أقدم كتاب طبخ في العصور الوسطى، أشار إلى الخصائص الطبّية المتنوّعة للكمّون، بما في ذلك قدرته على “تسهيل الهضم وتحفيز التجشّؤ”. وقد عرف المصريّون الأوائل خصائصه العلاجيّة، فاستخدموه لعلاج اضطرابات المعدة والسعال. ولا يزال الطبّ الأيروفيديّ الهنديّ يعتمد على الكمّون، بشكل أساسيّ، كمساعد هضميّ.

يجلس الاثنان على فرشات مسنودة على طول جدران غرفة الجلوس. هناك مكان للعديد من الضيوف. أصغر أطفالهما، خالد وملاك، يلعبان على الأرض. بعد فترة، يظهر عند الباب ابنهما الأكبر، يوسف، ليودّعهما، فهو ذاهب للعمل في مصنع رقائق البطاطس في قسم آخر من البقاع.

تتّجه أم شجاع إلى المطبخ حيث تعدّ “الكمّون”، مشروب ساخن مصنوع من التوابل تقوم بإعداده، على حدّ قولها في الكثير من الأوقات، “نشرب الكمّون كثيرًا. في الشتاء، نبقيه على الموقد طوال فترة ما بعد الظهر. وحتى لو لم نكن نريد شربه على الفور، فمن الجميل أن نترك رائحته تملأ المكان”.

هناك رائحة كمّون خفيفة وافدة من المطبخ حيث يبدو أنّ أم شجاع قامت، في وقت سابق، بطهي البطاطس بالكمّون.

“نستخدمه أيضًا في تحضير الكبّة، وطعمُه لذيذ جدًا حين نضيفه إلى اللوبياء بالبندورة”، تقول.

ثمّ يردف أبو شجاع: “بالإمكان أن نضيفه إلى أيّ شيء، وسيغدو الطبق لذيذًا، مثل إضافة كمّية صغيرة منه إلى الدجاج المشوي”.

"ليس من الصعب تخزين الكمّون؛ عليك فقط التأكّد من عدم وضعه في مكان رطب. رائحته القويّة تُبعِد الحيوانات كالفئران والثعابين"

“هل تعتقد أنّنا وضعنا الكثير منه؟ لا، لا. أنت بحاجة إلى هذا القدر!”

في المطبخ، تحتفظ أمّ شجاع أيضًا بجرار المونة التي تقوم بتحضيرها في الصيف لتدوم طوال أشهر الشتاء. وهناك أيضاً صينيّة تحوي برتقالًا برّاقًا، وزعفرانًا أحمر حاولت زراعته لأوّل مرة هذا العام.

ما أن يغلي الماء لبضع دقائق، حتى تطفئ أم شجاع النار وتحضّر صينيّة عليها أكواب صغيرة وليمون وملح وسكّر (حسب الذوق)، وتأتي ابنتها فاطمة لتجلب الصينيّة من المطبخ.

ثمّ تضيف: “هذه هي الطريقة القديمة لإعداده. عادة ما تعدّه جميع العائلات في المنزل. حتى أنّ أطفالي يهرعون إليّ أحيانًا عندما يعانون من ألم في مكان ما ويسألونني إذا كان بإمكانهم إعداد الكمّون”.

تُخرج قدرًا معدنيًا وتملؤه بالماء، ثمّ تشعل غاز الموقد تاركة الماء يغلي فوقه. وتغرف من داخل جرّة زجاجيّة ملاعق كبيرة من بذور الكمون وتضعها في الماء. هذا هو الكمّون الذي كان قد حصده أبو شجاع من الحقل في وقت سابق.

يواصلون الحديث عن الطعام والزراعة، وعن حياتهم في الرّيف السوريّ قبل الحرب.

“تتمتّع قريتنا، الرستن، بالسكينة والهدوء، لا يعتريها الضجيج ليلًا، وكلّ شخص في القرية مزارع، هكذا هي الحياة”، يقول أبو شجاع.

تقول أمّ شجاع: “كانت جميلة جدًا في الماضي. كانت جنّة حقًّا”.

يتحلّق الجميع في غرفة المعيشة حول الكمّون الساخن. تبدأ أمّ شجاع بتقديمه للجميع، وتسألهم إذا كانوا يفضّلونه حلوًا أم مالحًا. “بالسكّر”، يقول جميع الأطفال – باستثناء خالد، الأصغرهم سنًا، يفكّر لجزء من الثانية، ثمّ يقول “أريده بالملح”.

يقول أبو شجاع: “أنا الوحيد الذي يشربه بالملح عادةً. وقد درجت العادة على شربه بهذه الطريقة في عائلتي التي ترعرتُ في كنفها. أفضّله بهذه الطريقة لأنّ الملح لا يضرّ كالسكّر، كما أنّه يخفّف من مرارته”.

يمكن تناول الكمّون حلوًا أو مالحًا، حسب الذوق

يقول أبو شجاع: “يساعدنا ابن عمّي حتى لا تستحيل الأرض يباسًا. أوصيناه بأن يزرع ويحصد كما يحلو له؛ وبأن لا يترك الأرض مهملة”.

رغم الحرب، صمد فيها أحد أبناء عمّ أبو شجاع وهو الآن يدير أرضه. ومع ذلك، فإنّ الزراعة لم تعد كما كانت في السابق. فالناس يزرعون بشكل أساسي من أجل الاكتفاء الذاتي الآن، حيث لم يعد بيع الخضروات والمنتجات يدرّ لهم المال. لذلك تحوّلوا إلى المحاصيل البعليّة فقط، حيث يصعب تأمين الكهرباء أو الوقود لمضخّات المياه.

أمّ شجاع أمام المنزل الذي تعيش فيه مع عائلتها

“إنّك بحاجة إلى اعتماد المداورة وزراعة محاصيل أخرى، كلّ أربع سنوات على الأقلّ، في حال رغبت في الزراعة مرّة أخرى في المكان نفسه.”

في العام المقبل، في الحقل قرب رعيت ودير الغزال، لن يزرع الكمّون، “لن ينتج محصولاً جيّداً إذا واظبت على زراعته في المكان نفسه سنة تلو سنة”، لأنّه يعرف ذلك من خلال تجربته، كما يقول.

أبو شجاع مع طفله الأصغر، خالد

“لهذا السبب أحبّ الزراعة. هناك دائمًا ما يمكنك زراعته محلّ شيء آخر. لو زرعت الحمّص فقط هذا العام ولم أزرع الكمّون، لكان كلّ شيء ذهب سدًى”، كما يقول.

لذلك صار يفكّر بزراعة العدس من النوع الصغير الذي يمكن أن يدرّ له بعض الرّبح (يقول إنّ العدس الأكبر حجماً يُباع حاليًا بأسعار منخفضة للغاية لدرجة أنّ المزارعين ينتهي بهم الأمر إلى الخسارة). أو قد يحاول زراعة الحمّص مرة أخرى، ولكن بطريقة مختلفة قليلًا هذه المرة.

الخاتمة

بعد أسبوعين، في نهاية شهر سبتمبر/أيلول، شنّت إسرائيل قصفًا عنيفًا على جنوب لبنان، وبيروت، وسهل البقاع. فتغيّرت الحياة اليوميّة لأبو شجاع وأمّ شجاع بشكل كبير. وفي اليوم الثاني من القصف الشديد، نزح أقارب أمّ شجاع من النبطيّة في الجنوب. وهم الآن يأوون 20 شخصاً في منزلهم الصغير الذي يتألّف من أسرة واحدة. لا يعلمون ما ينتظرهم في الأيام القادمة، حيث لا تزال المناطق المحيطة بسعدنايل تتعرّض للقصف. وذات يوم،، بينما كانت أمّ شجاع ونساء أخريات يعملن في الحقل، تعرّضت منطقة الكرك القريبة للقصف. تقول إنهنّ رأين السماء تضيء فجأة، فعدن أدراجهنّ مذعورات. واليوم بات بلوغ أرضهم المزروعة بالكمّون والحمّص بعيد المنال، حيث أنّ الطريق إليها خطير للغاية، كما أنّ المناطق المجاورة لها تعرّضت للقصف أيضَا. ومثل المزارعين الآخرين، لم تتمكّن الأسرة من بيع الكثير من المنتجات، حيث تعطّلت التجارة والبيع بالجملة. لكن بعيداً عن إدارة الأرض، يعمل أبو شجاع عادةً مع رجل يزرع الورود على مقربة من سعدنايل.

تقول أم شجاع: “تركت أختي جميع أشجار الزيتون الخاصّة بها دون حصاد هذا العام. هرعوا إلينا بلا نقود ولا شيء بحوزتهم. أنا دائمًا أفتح قلبي للآخرين. لكنّي آمل أن يتمكّنوا من العودة إلى منازلهم”.

“أين يمكننا إيجاد الأمان الآن؟ كيف يمكننا رعاية أطفالنا، وكيف يمكننا تدبّر أمورنا؟ نحن نخشى مغادرة منازلنا في الوقت الراهن”.