جيني غوسطافسونكتابة
جيني غوسطافسونتصوير
انجلا سعادة, يارا وردبحث
نسرين كاجتحرير
فوزي يمينترجمة
ولدا حسين المراهقان، محمّد وعبد الله، يسيران نحو شجرة أخرى وفي أيديهما صناديق فواكه سود فارغة. ما إن يصلا إلى الشجرة حتى يبدآ بقطف حبّات التفاح المتدلّية من الأغصان السفليّة وهما يلويانها قليلاً لقطفها من الغصن.
هذه الأرض التي ورثها حسين عن والده عام 2004، تُستخدم بطريقة نموذجية في هذه الجبال. فالتفاح هو الفاكهة الأكثر زراعة في المناطق المرتفعة في لبنان، ويشكّل ما يقرب من خمس إجمالي الأراضي المزروعة بالفاكهة فيه.
يسير حسين بين الأعشاب وهو يمسك بيد ابنته زينب البالغة من العمر خمس سنوات. من وقت لآخر تتركه وتذهب لتلعب بين الأشجار، ثمّ تعود إليه.
“هيدي عندي أطيب تفاحة بالعالم. أحمر غامق (Double Red). أنا مطعّمها بإيدي.”
هكذا أفصح حسين محمد نعمان وهو يلتقط تفاحة من شجرة صغيرة في أرض قبالة الطريق المؤدّي إلى بلدة فنيدق في جبال عكار. التفاحة قشرتها حمراء ناعمة وكبيرة بحجم سعة اليد.
تنتشر حول محمد في كلّ مكان أشجار متشابهة، يتدلّى تفاحها من أغصان بنّية وفضّية. السماء متلبّدة بالغيوم. إنه نهار معتدل من أوائل الخريف، وهو الوقت المثالي لقطف التفاح.
“طلبوا مني جرّب أساليبهم الزراعيّة على قطعة زغيرة من الأرض”، يقول حسين، “وقلت لحالي خلّيني جرّب وشوف شو بيصير”.
هكذا بدأ حسين بالزراعة العضوية. في البداية، قام بتجريبها على قطعة أرض صغيرة تُستخدم لتلبية احتياجات الأسرة الخاصة. وعندما رأى أنّ الأمر قد نجح، واصل التجريب على أراضٍ أخرى. وبعد ذلك بعامين، استخدم الأساليب العضوية على جميع أراضيه المخصصة لزراعة الخضراوات.
“هيك كان يعمل بيّي من زمان”، يقول حسين: “ما كان يستعمل أيّ مواد كيميائية”.
ها هو حسين يسير نحو حدود الأرض المزروعة بالتفاح حيث يؤدّي منحدر صغير إنّما شديد الانحدار إلى الطريق. يأخذ زينب بين ذراعيه ويحثّ الخطى صعودًا إلى الأعلى. تمتدّ خلفه، في آخر حقل التفاح، جبال عكار الخضر.
سرعان ما ملأ ولداه الصندوق الأول، إذ إنّ قطف التفاح لا يستغرق وقتًا طويلاً. وعبد الله، أصغرهما، يتعلّق بغصن ويتسلّق الشجرة الصغيرة حيث يمكنه بلوغ الحبّات العالية.
هذا البستان هو إحدى الأراضي العديدة التابعة لحسين، كما أنه يملك أيضًا بستان تفاح أكبر وقطعتي أرض مزروعة بالخضروات. يديرها بنفسه وبمساعدة أبنائه. وفي بعض الحالات الاستثنائية، إذا اشتدّت الحاجة إلى جهد أكبر، يستأجر شخصًا للمساعدة.
كان حسين مزارعاً منذ أن تزوج للمرة الأولى، لكن الأمور أخذت منعطفاً جديداً منذ حوالي الخمس سنوات، عندما تواصلت معه منظمة “مدى”، وهي منظمة غير حكومية مكرّسة للزراعة المستدامة تقدّم التدريب والمشورة وتمدّ المزارعين بالبذور والشتلات.
ومع ذلك، فإنّ التفاح موجود أصلاً في البرّية، وقد لاح ظهوره الأول تاريخيًا في الصين وكازاخستان الحاليتين، منذ حوالي 10 إلى 20 مليون سنة، ولا يزال التفاح البرّي ينمو في هذه المناطق على أشجار يمكن أن ترتفع عدّة طوابق.
تختلف هذه التفاحات الأصليّة من شجرة إلى أخرى، بحسب ما يجلبه النحل من البراعم. فعندما قامت الثدييات باكتشاف التفاح، بدأت بعمليّة الاختيار. تخلّصت أوّلًا من الثمار الصغيرة والمرّة لصالح التفاح الحلو، ممّا جعل تلك البذور تنتشر وتفسح المجال أخيرًا لأصناف جديدة. كانت الخيول على وجه الخصوص تحبّ التفاح، ومعها انتشرت بذور التفاح غربًا على طريق الحرير.
لعب الصينيّون (الذين كانوا على الأرجح الأوائل في استخدام التطعيم) واليونانيون، والرومان دورًا في انتشار أشجار التفاح في أماكن جديدة، حيث جلبوا بمساعيهم البذور معهم.
ينمو التفاح بشكل جيّد في هذا المكان حيث ترتفع فنيدق حوالي 1100 متر عن سطح البحر. وهو ارتفاع جيّد لزراعة التفاح حيث يمكن زراعته على ارتفاعات أعلى من الخوخ والتين والبرقوق. في الواقع، تحتاج شجرات التفاح إلى البرد، وتتطلّب فترات طويلة ممّا يسمّى “ساعات البرد” على حرارة أقلّ من سبع درجات، لتبقى في حالة سبات وتستعدّ للإزهار وإنتاج الفاكهة الحلوة في كلّ موسم.
يقول حسين وهو ينظر إلى البستان: “التفاح بيحبّ البرد”.
بدأ إنتاج التفاح بالازدهار بعد الحرب العالمية الثانية، وهو الآن أحد أكثر الفواكه إنتاجًا على نطاق واسع في العالم. يوجد حوالي 7500 صنف في جميع أنحاء العالم، على الرغم من أنّ الإنتاج التجاري الحديث يركّز، بشكل كبير، على عدد محدود من الأصناف الشائعة.
يُظهر تقرير نُشر في مجلة “الجغرافيا الاقتصادية” Economic Geography عام 1963، أنّ أول مشتل تفاح خاصّ في لبنان تأسّس عام 1932، وأوّل بساتين تجارية عام 1937 على يد السيّدين عبد النور وفرعون. وبحسب المقال، اكتسب الرجال المعرفة عن التفاح “من خلال اتصالاتهم بالمهاجرين العائدين، ومن خلال الاطلاع على المجلات التجارية”.
كانت جميع المزارع الأولى قريبة من الطرق الرئيسية، في الشوف والجبال فوق طرابلس وبيروت. وأحد المشاريع الرائدة التي جذبت الانتباه لكونه يقع “على مرأى ومسمع” من طريق بيروت – دمشق السريع، كان بستان المديرج.
في لبنان حيث كان التفاح ينمو في البرّية، تمّت زراعة البذور الأولى لِما سيصبح بعدها صناعة كبرى في أوائل القرن العشرين. كانت تلك الفترة التي شهدت فيها صناعة الحرير في البلاد أيامها الأخيرة، وكان المزارعون بحاجة إلى استبدال أشجار التوت التي لم تعد تدرّ عليهم الربح، بمحاصيل أخرى.
وشهدت الزراعة تحوّلًا كبيرًا، من زراعة الكفاف التي تعتمد على الفلاحين بشكل أساسي، إلى ما أصبح فيما بعد صناعة موجّهة نحو التصدير. كان التفاح واحدًا من العديد من المحاصيل الأحاديّة التي تمّ إدخالها كجزء من هذا التحوّل.
حدث ذلك خلال حقبة مشاريع البنى التحتيّة الكبرى للمياه التي كان يجري تنفيذها في البلاد، كجزء من سياسات الانتداب الفرنسي التي تسترشد بفكرة أنّ “أيّ قطرة ماء تذهب إلى البحر ستضيع هباء”. فتمّ توسيع أنظمة الريّ جزئيًا لضمان الاكتفاء الذاتي، ولكن أيضاً لدعم إنتاج التصدير. وإذا ما نظرنا إلى الوراء، وجدنا أنه قد صاحب ذلك عواقب بيئيّة وخيمة، حيث كان هناك حاجة إلى كمّيات أكبر من المياه مقارنة بالزراعة البعليّة. كما أفاد هذا التحوّل بالفعل المزارعين الأقوياء على حساب أولئك الذين يملكون المعرفة التقليديّة.
واليوم، لا يزال حسين وآخرون في عكار يواجهون مشاكل تتعلّق بالمياه. وفي وقت سابق، صرّح حسين، كان قادرًا على الحصول على ما يكفي من المياه من الأنهار في منطقة الجرد، وهي أرض قريبة على ارتفاعات عالية، كانت تزوّد المزارعين في المنطقة من خلال شبكة من القنوات.
منذ البداية، قامت فلسفة التصدير بتوجيه المسألة. كان لبنان الغنيّ بالمياه يُعتبر مصدر الفاكهة المثاليّ لدول المنطقة، وخاصّة دول الخليج. فأُنشئت مراكز لإدارة تصدير التفاح والحمضيّات (تمّ استبدال لوائحها عام 1959 بلوحة “فواكه مشتركة”)، وتوسّع الإنتاج. ومن عام 1939 حتى عام 1959، ازدادت المساحة الإجماليّة لزراعة التفاح من 327 إلى 10953 هكتارًا. ويطلق عليها مؤلّف تقرير عام 1963 اسم “طفرة الزرع”. وفي الستينيّات، غدا التفاح ثاني محصول تصديريّ بعد الحمضيّات.
تأثّرت بذلك، وبشكل خاصّ، الزراعة الجبلية في لبنان التي كانت تاريخياً تعتمد على الاكتفاء الذاتي. فإلى جانب مجموعة متنوّعة من الخضروات المزروعة للاستهلاك المحلّي، كانت المحاصيل الرئيسيّة هي الزيتون والقمح. وقد تمّ استبدالها اليوم بأشجار الفاكهة. وفي حين تمّ تخصيص 39 في المئة من الأراضي للحبوب عام 1961، انخفض العدد إلى 20 في المئة بحلول عام 1999.
يستقلّ حسين والأولاد السيّارة المركونة بجانب بستان التفاح ويتوجّهون إلى أرض خضار قريبة من المزرعة. هناك يزرع البطيخ والطماطم والملفوف والخيار والفاصوليا والعديد من المحاصيل الأخرى، كما يزرع أيضاً بعض القمح ليحصل منه على البرغل والتبن لبيعهما.
“بالصيف ما منشتري شي. إذا مثلاً طلع ع بالنا نعمل فتّوش، كلّ مكوّناتو موجودة عنّا بالأرض”، يقول حسين.
“كنّا منظّمين الشغلة ع الوقت بطريقة إنّو كلّ واحد بيطلعلو ميّ لمدّة ساعة. بس اليوم شحّت الميّ وازداد عدد الناس اللي بيزرعوا. وبما أنّو الطقس اليوم صار دافي أكتر من قبل، صار الشجر بدّو ميّ أكتر”.
ولإيجاد حلّ لهذه المشكلة، يقوم حسين بضخّ المياه لأشجاره، غير أنّ هذا الأمر شديد التكلفة لأنّ سعر الوقود اللازم لتشغيل المضخّة مرتفع.
بدلًا من ذلك، يمارس حسين أساليبه الخاصّة في التعامل مع الآفات. فيستخدم لذلك أوراق شجرة الزنزلخت، أو أوراق شجرة التوت الصيني، ويزرع الزهور وأشياء أخرى حول النباتات.
ويقول: “بشكر كتير مركز “مدى”، علّموني هيدي الطرق العضوية”.
منذ أن بدأ بالزراعة العضويّة، انخفضت تكاليف حسين، لكنّه يحتاج الآن إلى جهد أكبر ممّا كان يقوم به عندما كان يرشّ أراضيه بالمواد الكيميائية.
يشرح حسين: “مثلًا إذا بدّي قبّع يإيديّ الأعشاب يلّي مش مليحة، بضلّ أنا وحدا تاني يومين تا نقبّعن، بينما إذا رشّيتن بيختفيو بخمس دقائق”.<
تُباع معظم منتجات حسين في سوق الجملة في عكار، وهي واحدة من سبعة أسواق كبيرة وسوقين صغيرين للبيع بالجملة في لبنان. غير أنّ مسائل جمّة تعترض هذه الأسواق، حيث يصف المنتجون العديد من المشاكل فيها كالتسعير التعسّفي، وانعدام الشفافية، والاتفاقيات غير الرسمية التي تضعهم في موقف تفاوضيّ ضعيف مثل العمولة البالغة 10 بالمئة.
يقول غسان سعود، وهو مزارع يزرع الخضار في عكار وأجريت معه مقابلة حول بيع منتجاته في السوق: “التجار بيجتمعوا بكّير وهنّي بيقرّروا قدّيش سعر كيلو البندورة”.
كان من الصعب على حسين تحويل مزارع التفاح الخاصة به. إحداها بعيدة عن فنيدق على ارتفاع 1900 متر، لم يستخدم فيها أيّ مواد على الإطلاق بسبب موقعها المعزول. لكن في الأرض الأصغر حجمًا والأقرب إلى المدينة، حيث يقوم الجميع برشّ أشجارهم، غالبًا ما كان يقوم بذلك.
عندما ترجّلوا من السيارة، أمسك محمد، الابن الأكبر، بصندوق وبدأ بقطف الطماطم. الأرض مغطّاة بالنباتات وممتلئة بالطماطم البرتقاليّة والصفراء الفاتحة، فراح ينتقل بسرعة من نبتة إلى أخرى ويختار الناضج منها.
ويردف غسان أنّ التجار في السوق يدفعون، في الكثير من الأحيان، عُشر سعر البيع. كما يصرّح العديد من المنتجين أيضًا أنّ التجار في سوق الجملة يقدّمون إيصالات بالدفع بأسعار أقلّ من السعر الذي تمّ بيعه للمنتج.
كما يقول نيكولا مدني، وهو مزارع تفاح في بلدة بمهريه (قضاء عاليه) والذي تمّت مقابلته أيضًا: “كلّ مين بدّو يشتري منّي ببيعوا”.
كما يقول: “بعتل همّ وقتا بدّي بيع”.
ويقول حسين إنّ تسعير التفاح تعسّفي للغاية. ففي عام، تُباع الفاكهة مقابل 4-5 دولارات لكلّ صندوق، وفي عام آخر مقابل دولارين فقط. لذلك نجده يبيع فواكهه وخضرواته العضوية بالسعر نفسه الذي تُباع به المنتجات التقليدية، حيث لا يوجد سوق في الشمال للإنتاج العضوي. فعكار منطقة معزولة في لبنان، وهي تشكّل مع البقاع المنطقة الأكثر فقراً في البلاد
تعود فكرة احتلال التفاح للعرش الملكيّ إلى زمن سحيق. ففي العديد من اللغات، بما في ذلك اليونانية والفرنسية واللاتينية، تُستخدم كلمة “تفاحة” للإشارة إلى أيّ نوع من الفاكهة. وحتى القرن السابع عشر، كان المصطلح الإنجليزي القديم يشمل المكسّرات. كما لا تزال العديد من أسماء الفاكهة الحديثة تحمل الاسم: تفاح الكسترد، والتفاح النجميّ (فاكهة استوائيّة تشبه الهلام)، والأناناس. وفي الفرنسية، البطاطس هي pommes de terre، وتعني حرفيًا “تفاح من الأرض”.
غالبًا ما يرمز التفاح في الفولكلور والأساطير إلى الجمال، الصحّة والخلود كما اكتشفت “بياض الثلج” (Blanche Neige) المنبعثة من الموت.
كان ستيف جوبز مغرمًا بالتفاح أيضًا. ويقال أنه اختار اسم شركته “آبل” عندما كان يتّبع نظامًا غذائيًا مؤقّتًا للفواكه. وقد تمّ تسمية خطّ إنتاج Macintosh الشهير الخاصّ بالشركة، على اسم مجموعة التفاح المفضّلة لصاحب المشروع جيف راسكين.
في فنيدق، وبينما يستمتع حسين بقضاء الوقت بين أشجاره، قرّر استبدال الكثير منها بمحاصيل تتطلّب كمّيات أقلّ من المياه والمبيدات الحشرية، مثل القمح أو البصل أو الثوم.
يقول: “التفاح اليوم ما بيردّ حقّو . سعرو غالي، وما عنّا ميّ كتير”.
انخفضت الشمس أكثر، وانتهى أفراد الأسرة من قطف الفواكه والخضروات. إنّهم الآن يقومون بتحميل التفاح والطماطم في صندوق السيارة ثمّ يعودون إلى الطريق الرئيسي. يمتلك حسين متجرًا صغيرًا هنا، حيث يبيع المواد الأساسية بالإضافة إلى منتجاته الخاصّة.
“كنّا نفرّز الفول السوداني، بس اليوم ما في كهرباء”، يقول حسين: “ميشان هيك منجفّفو تحت الشمس على السطح متل ما كانوا يعملوا من قبل”.
يضع كرسيًا أمام المتجر ويجلس. تمرّ السيارات وهي تصعد إلى الجبل أو تنزل باتجاه الساحل. وأمامه الطريق الصغير المؤدّي إلى بستان التفاح وأراضي الخضار.
“أنا بعشق الأرض، إذا ما بزورها كلّ يوم، بموت”، يقول حسين: “بالشتي، بالثلج، كلّ يوم”.
عندما يصل إلى المتجر، يفتح أبوابه الزرق ويدخل. على الأرض صناديق طافحة بالرمّان والعنب الأبيض الكبير. يأتي طفل وفي يده بعض الأوراق النقدية ويبدأ في تأمّل الرفوف الممتلئة بالوجبات الخفيفة.
ينجح حسين وعائلته في العيش بشكل رئيسيّ من أراضيهم، على الرغم من صعوبة ذلك. ويقول إنّ الرسوم المدرسية ارتفعت من 150 دولارًا إلى 400 دولار لكلّ ولد. لذلك، قرّر وزوجته تسجيل ابنتهما زينب فقط في مدرسة خاصّة، وإرسال باقي الأولاد إلى المدرسة الرسميّة.
كما أنّهم لا يتوانون عن إيجاد طرق أخرى للتأقلم.