جيني غوسطافسونكتابة
جيني غوسطافسونتصوير
انجلا سعادة, يارا وردبحث
نسرين كاجتحرير
فوزي يمينترجمة
أحد هذه البساتين ينتمي إلى كريم الحسن، وهو رجل في الثلاثينيات من عمره، نشأ في أبو ظبي لكنه يمضي الصيف في لبنان. تقع أرضه بين صيدا وصور، على بُعد دقائق قليلة من الطريق في بلدة القدموس الصغيرة. يرتدي كريم سترة خضراء ويتجوّل بين الأشجار.
“جدّي زرع هيدي الأرض. بفترة من الزمن كان يأمّن عيشتو من ورا هالبستان، يبيع الليمون والأفوكادو”.
وأنت تقود سيّارتك جنوباً من صيدا على الساحل الجنوبي للبنان، تبدو كلّ قطعة أرض لم يطلها العمران، مغمورة تقريبًا بالمَزارع. في البداية، كلّ ما يمكنك رؤيته هو الخضرة، لكن ما أن تبدأ تدريجيّا بالاقتراب حتى تظهر من بين الأوراق ثمار بلون الشمس.
في الماضي، كانت جميع هذه الفواكه عبارة عن حمضيّات، حيث كان ينمو البرتقال والليمون والبوميلو الثقيل على الساحل الجنوبي للبنان منذ أجيال. أما الآن، فقد تمّ استبدال الكثير منها بالموز، ممّا يضمن تحقيق ربح أسرع، غير أنّه لا تزال هناك بعض بساتين الحمضيّات في المنطقة.
يحمل كريم في يده كوبًا من الشاي المصنوع من أعشابه وزهوره المجفّفة. يتبعه كلبان، بسمة وفونجي. على الطريق، تتوقف بسمة وتستلقي تحت أشعة الشمس، تحيط بها النباتات والزهور.
في أحد أطراف الحديقة، درج ضيّق يفضي صعودًا إلى منزل العائلة وإلى فناء صغير. من هناك يمكنك رؤية الطريق إلى البحر.
اليوم وبعد عقود، أصبح كريم هو مَن يعتني بالأرض، بمساعدة حسن، الرجل الذي يعيش مع العائلة منذ 20 عامًا. وعندما انطلق في إدارة البستان، قرّر كريم اتّباع الممارسات الزراعيّة المستدامة فقط.
يفصح كريم: “بلّشت القصّة بفترة كنت عم فتّش عن العزاء بالطبيعة. صرت إتنقّل من محلّ للتاني، من نهر لنهر ومن جبل لجبل. وخلال فترة الكورونا، خصّصت وقت تا أعرف أكتر عن الزراعة المستدامة وبلّشت حطّ كلّ تركيزي على الأرض”.
في الحديقة، يجلب كريم سلّة من القماش المنسوج ويبدأ في ملئها بالبرتقال بأحجام مختلفة.
يقول: “الفواكه بتختلف عن بعضها. شجر الحمضيات بيعمّر وبيعطي فواكه لفترة طويلة. عندي أنواع مختلفة هون وكلها بتتداخل ببعضها. وقتا بيخلص موسم الكليمنتين واليوسفي، بيبلّش يبيّن ليمون الفالنسيا”.
وهذا بالضبط ما كان يدور في ذهن جدّه عندما زرع الأشجار الأولى. ففي حال نمت العديد من الأصناف معًا في البستان نفسه، فسيكون هناك دائمًا صنف واحد على الأقلّ يُعطي ثمرًا.
يقول كريم: “بهيدي الطريقة، بيوقف عندك الليمون لشهرين أو تلاتة. وإذا زدت البوملي والجريب فروت، بيضلّ عندك فواكه كلّ السنة”.
في مكان ما شبيه بتلك المناظر المتوسطية، دخلت الحمضيّات تاريخ البشريّة. تعود نشأة عائلة الروتاسي Rutaceae من الفواكه الحلوة والحامضة الى جنوب شرق آسيا، عند سفوح جبال الهيمالايا، أي في الهند اليوم. لكنها زُرعت هنا للمرة الأولى في منطقة البحر الأبيض المتوسط.
تُظهر الاكتشافات الأثريّة أنّ الحمضيّات كانت مزروعة في بابل القديمة، وفي قبرص، وفي الحديقة الملكيّة الفارسيّة بالقرب من القدس.
وفدت البذور مع التجّار عبر طرُق التجارة القديمة التي نشأت في آسيا. وكانت الثمار الأولى، وهي الأترج المعقّد (أحد أسلاف عائلة الحمضيّات الثلاثة البرّية، إلى جانب اليوسفي والبوميلو)، حامضة جدًا لدرجة أنه لا يمكن أكلها. ومع ذلك، فإنّ وصولها المبكّر منح تسمية العائلة التصنيفيّة بكاملها باسمها – على الرغم من كونها العضو الأقلّ شهرة في العائلة تلك.
لمئات السنين، كان الناس في البحر الأبيض المتوسط يعتمدون على الحامض والليمون. ومن ناحية أخرى، تناول الصينيّون واليابانيّون البرتقال لفترة طويلة. فقد كانت الفاكهة تحظى بتقدير عالٍ في الإمبراطورية الصينيّة، وغالبًا ما كان يتمّ تقديمها إلى زوّار البلاط. أوّل كتاب معروف مخصّص بالكامل للبرتقال كتبه المؤلّف الصينيّ هان ين تشيه عام 1178. كما كان الناس في شرق آسيا يأكلون أيضًا، بل يعشقون ـاليوسفي الأصغر حجمًا، والذي لا يزالوا يفضّلونه على غيره ويظهر في العديد من الاحتفالات والأعياد.
عندما وصل البرتقال أخيرًا إلى البحر الأبيض المتوسط، كان ذلك عبر طرُق التجارة التي أنشأها الجنويّون والبرتغاليّون. وهذا ما يفسّر سبب تسمية الفاكهة في العديد من اللغات، بما في ذلك اللغة العربيّة، بـ “البرتغاليّة”.
إلى جانب الحمضيّات، يزرع كريم قائمة طويلة من الفواكه والخضروات. فهناك أشجار التين والأفوكادو والرمان والزيتون والبابايا، كما أنّ هناك أيضًا القرنبيط والملفوف وأنواعًا كثيرة من الأعشاب والخضر الورقيّة، معتبرًا أنّ هذا التنوّع يحافظ على صحّة التربة.
يوضح: “زرعت إشيا كثير بين الشجر، انتبهْ إنت وعم تمشي. في بقدونس وجرجير ونعنع ومريميّة وأناناس. في تلاتين نوع من الزهر، بتلقّح وبتكافح الأمراض”.
تمتلىء السلّة بالبرتقال، فيتركها كريم على الأرض ليلتقطها لاحقًا. يُعدّ البرتقال، إلى حدّ بعيد، الفاكهة الحمضيّة الأكثر زراعة في العالم اليوم (حوالي 70 بالمائة من إجمالي الإنتاج)، وكذلك في لبنان (يصل إلى 50 بالمائة من إجمالي الحصاد). لكنّه كان من آخر الفواكه التي وفدت إلى المنطقة، ومن آخر الفواكه التي انتشرت في جميع أنحاء العالم.
في الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين، عندما بدأ لبنان في إنتاج كمّيات أقلّ من الحبوب (بناءً على طلب التجار في المناطق الحضرية، وأيضاً بتوجيه من قبل أصحاب المصالح الاقتصادية والسياسية الغربية)، ازدهرت صناعة الحمضيّات وأصبحت أكثر توجّهًا نحو التصدير. وهذا أيضاً أدّى إلى اعتماد لبنان على الحبوب المستوردة، الأمر الذي لا يزال مستمرًّا حتى اليوم. كما شهدت الأعوام من 1955 حتى 1970 زيادة بنسبة 250% في إنتاج الحمضيّات (وخفضًا إلى النصف في إنتاج الحبوب)، وبدأت المَزارع الأكبر حجمًا تحلّ محلّ البساتين التابعة للعائلات. بعدها انتقلت الزراعة جنوباً، وتركّزت على الساحل بين بيروت وصور، حيث قام أثرياء المدينة بشراء الأراضي وإقامة المَزارع فيها. وتمكّن ما لا يقلّ عن عشرين تاجرًا، مرتبطين بالمصرفيّين والتجار، من السيطرة على حوالي 80 بالمائة من إنتاج الحمضيّات.
في هذا الوقت، استفادت الصناعة الزراعية اللبنانية أيضًا من عمل النازحين الفلسطينيّين الذين لعبوا دورًا مهمًا في نموّ صناعة الحمضيات.
يقول محمد فراس حسن، وهو رجل في السبعينيات من عمره كان يعمل في زراعة الحمضيات في جنوب لبنان: “وقتا نزحوا الناس على لبنان بسبب النكبة عام 1948، جابوا معن الشتلات حتى صار فينا نزرع أنواع جديدة عنّا”.
يجلس على شرفة منزله في صور، ويتمتّع بمشاهد تمتدّ على طول الطريق إلى ضواحي المدينة الجبلية. أمامه على الطاولة، فنجان شاي وعلبة سجائر. ثمّ يبدأ بتعداد أنواع البرتقال المختلفة المزروعة في لبنان واحدًا تلو الآخر.
وتكشف أسماء الحمضيّات الأخرى أيضًا عن تاريخ تداولها من قبل التجّار العرب والمتوسطيّين. فكلمة ليمون مشتقّة من الكلمة العربيّة والفارسيّة “laymoun” (والتي بدورها تشتقّ من الكلمة السنسكريتيّة “nimbo”) ؛ ويعود أصل كلمة برتقال إلى السلالة الدرفيديّة Dravidian في جنوب آسيا، “نورجا”، وتعني العطر.
كما اتّضح أنّ الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط كان صالحًا، بشكل استثنائيّ، لزراعة الحمضيّات. فقد أُقيمت البساتين على طول الساحل، وأصبحت جزءًا مهمًّا من الاقتصاد الزراعي. وحظيت يافا بإشادة عالميّة عندما تمّ شحن برتقال الشموتي، وهو طفرة عفويّة للأصناف المحلّية، إلى جميع أنحاء العالم في صناديق تحمل علامة “يافا”. كما ازدهرت الصناعة في النصف الأخير من القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. فكانت الحمضيات، قبل النكبة، تمثّل 77% من الصادرات الفلسطينية.
وإلى الشمال، على الجانب اللبناني من الحدود الحالية، كانت تُزرع الحمضيات في البساتين، غالبًا وجنبًا إلى جنب مع الإسكدنيا (الأكادينيا)، والموز، والتوت. يصف أحد التقارير من عام 1951 إنتاج الحمضيات في لبنان بأنه صناعة “البستنة” أو “ثقافة الحدائق”، حيث يقوم المزارعون من العائلات الصغيرة، بشكل رئيسي، بزراعة ما بين فدّانين إلى عشرة لكلّ منهم. وكان شمال لبنان مركز الصناعة في ذلك الوقت. وسُمّيت طرابلس بالفيحاء نسبة لرائحة أزهار الليمون التي كانت تفوح من بساتينها. ويشير التقرير، في ذلك الوقت، إلى أنّ إجمالي إنتاج الحمضيّات في البلاد قد بلغ في السنة الواحدة وفي أحسن الأحوال إلى مليونين ونصف المليون صندوق.
ويتابع محمد أنّ الليمون يأتي بأصناف مختلفة أيضًا.
“عنّا أربع أنواع هون. واحد بيعطي فواكه كلّ السنة، والتاني بيعطي فواكه بنصّ السنة، والباقيين بيتأخّروا تا يزهّروا”.
يزرع كريم في حديقته الليمون والجريب فروت والبوميلو الأصفر الشاحب. ويقول إنه يمكن حصاد العديد من ثمار الحمضيات تدريجيًا، أمّا بالنسبة لبعض الأصناف فقد تبقى على الأغصان لمدة تصل إلى ثلاثة أشهر.
يشير كريم إلى أوراق إحدى الأشجار، بأنها موبوءة بالآفات التي يعالجها عن طريق رشّها بمبيده الطبيعي المصنوع من الصبّار وعشب الليمون والأوريجانو والثوم والفلفل الحارّ الممزوج بالخلّ والبيكربونات وزيت الزيتون.
“عيلة البرتقال كبيرة ومتنوّعة. أولاً، عندك الأصناف المبكّرة. أبو صرةّ، كليمنتين، أفندي، يافاوي أو يافا من فلسطين، وماوردي، وهوّي نوع من البرتقال الدموي. كمان عندك الأركينيك، الويكل، والفالنسيا”.
النوع الأخير، البالنسيا، الذي سُمّي على اسم المدينة الساحلية الإسبانية، وفد إلى لبنان في الأربعينيات من القرن الماضي، ولاقى إعجاب الناس لدرجة أنه حلّ محلّ البرتقال المحلّي والمغربي، ولا يزال يتمتّع بشعبية كبيرة وهو ناجح لصنع العصير. أبو صرّة، المعروف أيضًا باسم برتقال الصرّة، حلو المذاق، ذو قشر سميك. الأفندي، وهو من نوع المندرين وليس برتقالًا، وفد إلى لبنان على ما يبدو مع أحد الوجهاء المصريّين الذي يُدعى يوسف أفندي. إضافة إلى ذلك، هناك أيضًا نوع من البرتقال يُسمّى “ختمالي”، من كلمة “ختم”، لأنّ علامة تشبه الختم موجودة في أسفله.
ويردف بأنّ بعض المواد أفضل من سواها، فالعديد من المبيدات الحشرية يابانيّة الصنع، فعّالة للغاية وأقلّ ضررًا، لكن في ظلّ الأزمة الاقتصادية، لا يعود بمستطاع معظم الناس تحمّل تكاليفها.
في الماضي، لم يكن المزارعون يرشّون أشجارهم على الإطلاق، وللحصول على الأسمدة كانوا يعتمدون على سماد الدجاج أو الماعز أو البقر. وعلى كلّ حال، لم تكن هناك حاجة لاستخدام منتجات قوية. اليوم أصبحت الآفات أكثر شيوعًا، نتيجة للتجارة عبر القارّات وفقدان التنوّع البيولوجي الذي كان يُستخدم لإبعاد الأمراض.
يستخدم معظم مزارعي الحمضيات في لبنان الكثير من المنتجات الكيميائية على أشجارهم، وهو ما يرتبط جزئياً بممارستهم الزراعة الأحادية، ممّا يُفرغ التربة من التغذية ويستنزف طاقتها.
ويقول محمد في صور إنّ المنتجين اليوم يستخدمون في عمليّة رشّ أشجارهم أساليب تضرّ الأرض والفاكهة.
“لمّا منحاول نصدّر الفواكه والخضار تبعنا لبرّا، بيرجّعولنا ياها لأنّو نسبة المبيدات فيها عالية كتير. وصعب كتير تلاقي حمضيات وموز مش مرشوشين”.
واليوم، وبعد مرور أكثر من قرن، تبدو أوضاع الأكل والغذاء قاتمة مرة أخرى. ويواجه الآن حوالي مليوني شخص في لبنان انعدام الأمن الغذائي نتيجة للأزمة المالية بشكل أساسي، ولكنه يتفاقم أيضًا بسبب عدم المساواة والاستغلال والقضايا البيئية. فمنذ بدء الأزمة في عام 2019، ارتفع سعر القمح عدة مرات. وأصبحت هشاشة الوضع واضحة مع الصراع في أوكرانيا، حيث يحصل لبنان على 80.4 في المئة من القمح المستورد (أضف إلى ذلك 15.5 في المئة من روسيا).
اليوم، حوالي ثلثي الأراضي الزراعية في لبنان مملوكة من قبل 10% من أفضل ملّاكي الأراضي، والعديد منهم مرتبطون بشخصيات سياسية.
ويصف مقال نشره مركز كارنيغي للشرق الأوسط هذا الأمر بأنه أشبه ب”قبضة احتكار القلّة” للسوق. أضف إلى ذلك السياسات الزراعية للبلاد، والتي كانت لفترة طويلة موجّهة نحو المحاصيل النقدية والتصدير. يعود كلّ ذلك إلى بداية لبنان كدولة حديثة، ومجاعة 1915-1918 التي أعقبت تحوّلًا من الغذاء المحلّي إلى تصدير المحاصيل مثل الحرير.
واليوم، تتمّ زراعة حوالي 250 ألف طن من الحمضيّات في لبنان كلّ عام. وتنتج بلدان البحر المتوسّط ككلّ حوالي 20 مليون طن، أو 20 في المائة من إجمالي إنتاج الحمضيّات في العالم. ورغم أنّ البرتقال لا يزال أكثر أفراد عائلة الحمضيّات رواجًا، إلّا أنه يفسح المجال ببطء لليوسفي والكليمنتين والساتسوما الخالي من البذور والسهل التقشير، حيث تزداد شعبيّة هذه الأنواع.
على مرّ التاريخ، كانت الحمضيّات دائمًا رمزًا للثروة والوفرة. فأعضاء الإمبراطوريّة الرومانيّة الأثرياء قاموا بزراعة الحمضيّات في حدائقهم على البحر الأبيض المتوسط، خاصّة حول فيزوف وروما. وغالبًا ما كانت الأطعمة في الإمبراطوريّة العباسيّة، والتي تأثّرت بالطبخ الفارسي والبيزنطي، تحتوي على الحمضيّات. على سبيل المثال، كانت يخنة السكباج الشهيرة تُطهى أحيانًا بأوراق الحمضيّات. كما تظهر الفواكه أيضًا على الفسيفساءات اليهوديّة والمسيحيّة الموجودة في سوريا وفلسطين والأردن. ولا يزال الأترج (لنتذكّر وصوله المبكّر والمُرّ) يُستخدم في عيد الحصاد اليهودي “سوكوت” Sukkot. واليوم يتمّ بيع جميع أنواع الحامض المزروعة تقريبًا لهذا الغرض.
ويصف التقرير الصادر عام 1951 كيفيّة حصاد الحمضيّات في ذلك الوقت. كان الأمر يتم بشكل يدويّ بالكامل: تُقطَف الفاكهة باليد وتُوضَع في سلال تُحمل على الأكتاف باستخدام أحزمة متينة. يأتي الحمّالون لجمع السلال، وتحميلها على ظهور الحمير، ونقلها إلى مركز التعبئة. وبمجرّد الوصول إلى هناك، يقوم العمّال بإزالة البقع أو القشور عبر استخدام شرائح مطّاطية من إطارات السيّارات، ثمّ يقومون بفرز الفاكهة حسب الحجم والصنف. الفاكهة المُعَدّة للتصدير يتمّ تغليفها كلّ على حدة؛ والحمضيات المُباعَة محلّيًا تكون بشكل حزم ومغطّاة بورق الموز.
كما يشير التقرير إلى أنّ الفترة الممتدّة بين عامي 1950-1951 كانت جيّدة بشكل خاصّ. وكان على لبنان أن يفكّر في حلول بديلة في حال لم تستطع سوريا، المستورد الرئيسي، شراء الفاكهة منه، لأنّ حدودها لا تكون دائماً مفتوحة لاستيراد الحمضيات اللبنانية. وكانت الحلول المقترحة هي دعم الصناعة بمبلغ مليون ليرة لبنانية حينها، أو إنشاء مصنع عصير للاستفادة من الفائض. وكان من المتوقّع أيضاً أن تستورد السويد الحمضيّات لقاء ثمن “الهواتف السويديّة الأوتوماتيكيّة” المركّبة في لبنان.
كان كريم على وشك الانتهاء من عمله في حديقته لهذا اليوم. فغالبًا ما يكون مشغولاً في الصباح عندما يأتي ليتفقّد الأشجار، ويتحقّق ممّا إذا كانت بحاجة إلى الماء، وإذا كانت قد أصابتها أيّ عدوى. وفي بعض الأحيان، لا حاجة لأيّ شيء من هذا كلّه.
يقول كريم: “تغيّرت الأساليب الزراعيّة. من قبل كان الشغل يتطلّب جهد كبير، اليوم صار ممكن الواحد يعمل نظام تكون فيه المكوّنات المتنوّعة بالتربة هيّي لعم توفّر كتير من هيدا الجهد. وبس يقدر الواحد يضبط هالنظام، بيبلّش تعبو يخفّ وإنتاجو يزيد”.
ومن الأمثلة الغريبة على ذلك، رسمُ الطبيعة الصامتة في الفنّ الهولندي الذي يصوّر الليمون باستمرار. فبحسب الإحصاء، وُجد أنّ 51% من جميع اللوحات التي تمّ إنتاجها في منتصف القرن السابع عشر كانت تحوي ثمارًا حمضيّة، وعادةً ذات قشر ملتف. وفي التاريخ الحديث، لعبت الحمضيّات الدور الأكبر في ولادة المافيا الصقليّة، حيث أنّ ازدياد الطلب السريع على الحمضيّات في أواخر القرن التاسع عشر، (الناجم عن اكتشاف فوائد الفيتامين سي في معالجة مرض الإسقربوط)، منح أعضاء المافيا الأوائل فرصة استهداف مزارعي الحمضيّات الناشئين في صقليّة، وسرعان ما سيطرت المافيا على صناعة الحمضيّات في جزيرة صقلية.
“ما بدّي إزرع إشيا عن قصد، بدّي ياها تطلع منها لحالها. مثلاً هيدي البندورة بدّي أتركها تطلع متل ما بدها. عم جرّب.”
بينما في المقابل، يقوم مزارعون آخرون على طول الساحل بالعكس، إذ يسعون إلى تحقيق أقصى قدر من التحكّم والإنتاج. فلقد حوّل الكثير منهم الحمضيّات إلى الأفوكادو أو الموز، ممّا يحقّق لهم ربحًا أسرع. ففي حين تحتاج أشجار الحمضيّات إلى عدّة سنوات لتعطي الفاكهة، تنتج نباتات الموز إنتاجًا فوريًّا تقريبًا. أضف إلى ذلك أنّ بعض أصحاب الأراضي الذين كانوا قد اشتروا البساتين من أهل الجنوب، يبيعون الآن أراضيهم للعاملين في مجال العقارات أو البناء.
هذا النظام الذي يصفه كريم، يعتمد على مفهوم محاصيل التغطية، حيث تتمّ في الزراعة المستدامة زراعة النباتات لحماية التربة وتحسينها خلال الفترات التي تكون فيها الأرض جرداء.
يشرح كريم: “بهيدي الطريقة بحمي الشجر من الجفاف. لأنّو إذا التربة بتشوف الشمس، بموت كلّ شي عايش فيها”.
ويواصل كريم شرحه بأنّه يحاول هذا العام تجربة أشياء جديدة على أرضه.
وكثيراً ما تكون هذه التحوّلات مترابطة أيضاً: فنظراً إلى أنّ عمر زراعة الموز قصير لا يزيد عن ثلاث سنوات، فإنّ هذه التحوّلات توفّر حلًا مؤقتًا، بينما ينتظر أصحاب الأراضي الحصول على ترخيص لتحويل أراضيهم الزراعية إلى مشروع عقاريّ.
يقول محمّد في صور: “بالماضي ما كنت تشوف غير البرتقال والليمون على طول الساحل، بس بآخر 25 سنة انزرع محلّن موز. صارت الحمضيات أرخص، وضلّ سعر الموز على حالو تقريبًا”.
إنّ سياسات التخطيط في البلدات والمدن اللبنانية، تشجّع هذا التحوّل من الزراعة إلى البناء، وتفشل في حماية البساتين القليلة المتبقّية. في صيدا، هناك مثلًا مشروع إعادة التخصيص، “الضمّ والفرز”، الذي أعلنت عنه النائب بهيّة الحريري، حيث تحوّلت بساتين منطقة الوسطاني إلى أراضٍ مفتوحة للتطوير العقاريّ. وقال اسماعيل شيخ حسن من مبادرة “نُحيي الأرضَ” في صيدا، في إحدى المقابلات، إنّ الأراضي التي تُعتبر أملاكًا عامّة تحوّلت إلى رأس مال، ما “أدّى إلى وقوع عدد كبير من الأراضي في قبضة حفنة من أثرياء المدينة”.
هذا صحيح، لكن هناك أيضًا مزارعون مثل كريم يواصلون رعاية أشجار الحمضيّات الخاصّة بهم.
حين نقرأ التقرير المكتوب على الآلة الكاتبة في عام 1951، يتّضح لنا أنّه كان بالفعل أشبه بالتخمين. إذ إنّه يشير إلى أنّ الأراضي الساحلية في لبنان “قد يتمّ تحويلها في المستقبل إلى إنتاج الموز ومحاصيل أكثر ربحيّة”.